يحدث أن أطالع مقالًا على أحد مواقع الجرائد السودانية يسرد كاتبه فيه وجهات النظر المختلفة عن عِرق المصريين القدماء، وهي وجهات نظر مختلفة منذ الأزل وستبقى مُختلف فيها حتى الأبد.
لم أقض وقتًا طويًلا حتى ألاحظ النغمة المتحيزة لكاتبه، التي تقول بأن المصريين القدماء كانوا إفريقيين خُلص من أعراق ما بعد الصحراء وما هؤلاء الشرق أوسطيون الذين يعيشون في مصر الآن إلا حصيلة الخلطة العجيبة لمرور الفرس والإغريق والإيطاليين والعرب والمماليك الشركس والأروام والآسيويين والترك والألبان والكرد والفرنسيين والإنجليز على فّرْج أم الدنيا!
اقرأ المقال سريعاً وأنتقل من لته وعجنه إلى قسم التعليقات الذي يبرز وجهة النظر السائدة لدى القراء؛ فأجد التعليقات الأولى التي حازت على أغلب الإعجابات يشكو فيها كاتبوها من قدر السودانيين البائس الذي وضعهم بجوار أكبر شعب نصّاب على وجه البسيطة! وكيف أن هذا الشعب النصّاب قد قام بأكبر عملية نصب في التاريخ عندما جعل العالم يعتقد أنه هو من بنى الحضارة الفرعونية، بعد أن قام بدفع الشعب الفرعوني الحقيقي \”السوداني\” إلى جنوب الوادي \”السودان\”!
وبغض النظر عن تعصب المقصد؛ إلا أن هذا يبرز جانبا من الصورة النمطية عن المصريين لدى أقرب الشعوب لنا دمًا ومصيرًا.
يحدث أن أفتش في التاريخ عن رأي ووجهة نظر الصحابة عن مصر، فأجد ضمن ما أجد عبارة حبر الأمة عبدالله بن عباس التي تقول: \”المكر عشرة أجزاء، تسعة في القبط وواحد في سائر الناس\”.
يحدث أن اقرأ عشرات المنشورات على الفيسبوك لمصريين يعملون في الخليج، يحكون فيها عن ذكائهم الخارق في التحايل على عروض شركات الاتصالات الخليجية، لدرجة أن مديري فروع تلك الشركات قد حلفوا بالله والرسول وصنادل الآباء المؤسسين لدولهم أنهم سيقدمون عرائض عاجلة لمسئوليهم كي يستثنوا المصريين من أية عروض تقدمها شركات الاتصالات الخليجية بسبب آي كيو المصريين المرتفع الذي يتفوق على آي كيو واضعي مقدمي العروض.
يحدث أن أتأمل الكلمات التي يمجدها المصريون، فأجدهم يحتفون كثيرًا بصفات الشخص النصّاب كالحدق والمفتح والشخص الُعقر والديب واللي بياكلها وهي طايرة، وغيرها.
ولكن هذا ليس مفهوم النصب الذي أريد التحدث عنه.
**********
كان أحد أقربائي طفلاً صغيرًا لا يتجاوز العاشرة من عمره حينما اشترى له والده بندقية رش كي يصيد بها الحمام الجبلي الذي كان ينزل من اللامكان إلى أعلى حوائط البيوت وحقول البرسيم، ولكن بما أنه كان صياداً فاشلاَ؛ فقد كان يطلق كرات بندقية الرش المعدنية على حيوانات القرية بدلًا عن الحمام الجبلي. وعندما كان يشتكي الناس للوالد من خيبة الطفل الثقيلة، التي لم ترد على مخلوق من مخاليق الرحمن، وعندما كان يعنفه والده؛ كان يطّيب خاطره وخاطر الحزانى المكلومين قائلاً: \”بكره أكبر وأبقى دكتور بهايم وأعرف أصيد القمري والحمام وكمان أعالج البهايم\”، وكنا نضحك ويضحك الثكالى وينتهي الأمر، ولكن لما استمرت مهاراته في الصيد محلك سر، وتكررت وعوده في تحسين قدرته على الصيد دون دليل ملموس، قال له والده ضاحكًا بصوت يشبه صوت محمد هنيدي في فيلم عسكر في المعسكر: \”أنت نصاااااب\”، وأخد البندقية وباعها، أو قام بتكسيرها على ما أتذكر.
منذ هذا اليوم؛ صارت كلمة النصّاب في ذهني تنم عن الشخص الذي يتكلم كثيرًا ولا يصنع شيئاً، الشخص الذي يصنع جعجعة بدون طحين كما يقول شكسبير، الذي لا ينجح لأنه لا يريد أن ينجح، والذي يتكلم في نفس الوقت، طوال الوقت، عن نجاحاته، الذي لا يريد أن يتقدم خطوة للأمام بينما يتكلم في نفس الوقت عن قطعه عشرات الأميال.. الشخص المدعي، والكيان المدعي، والدولة المدعية.
وهذا التعريف لمفهوم النصّاب ينطبق تماماً على شعبنا، وبإمكانك، لو فكرت قليلًا، أن تجد مئات الأمثلة التي تبرهن لك كم هي متوغلة ثقافة النصب والادعاء فينا؛ فنحن الشعب الذي تندرت الكرة الأرضية على مشاداته العجيبة، والتي تستمر لفترة طويلة في الزعيق والتحجيز و\”والله لأموتك، وأمك دعت عليك عشان توقع في طريقي النهارده، وهتموت يعني هتموت مفيش فايدة\”، ثم ننصاع لأي محاولة إصلاح قائلين: الصلح خير، ونردد الحديث المحمدي \”حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ\” أو العبارات المجانية \”المسامح كريم\” \”يا بخت من بات مظلوم ولا باتش ظالم\” وغيرها.
ودولتنا هي النموذج الأكمل لمفهوم الدولة النصّابة منذ مولدها فى سنة 1952، وتجلت أبرز مظاهر نصبها على الشعب في الفترة الناصرية، بدايةً من صواريخ القاهر والظافر التي أكد عبدالناصر غير ذي مرة على قدراتها الفتاكة في سحق إسرائيل عندما يجد الجد ويصح الصحيح، ولكن لما دقت ساعة الهزيمة لم تغن عنا من الصهاينة شيئًا، ولم يسأل الشعب وقتها عن هذه الوعود، فقد كانت لديه مهمة مقدسة في تطييب خاطر من نصب عليه وخدعه وترك العدو يحتل أرضه ويعربد في سماواته.
ولم تكن هذه الصواريخ الشيء الوحيد الذي نصبت فيه السلطة الناصرية على شعبها، فقد كانت هناك سفينة الفضاء المصرية وسيارات رمسيس والمقاتلة حلوان 300، فضلًا عن أحلام القومية العربية الساذجة التي أعمتنا عن طبيعة العربي الميالة للفرقة والكيد لأخيه العربي.
صحيح أن مرحلة النصب مرت بفترة ركود في زمن السادات البراغماتي، لكن النصب كان راكدًا لم يمت.
وهذا ما اتضح عندما اشتعل من جديد في عهد مبارك الذي قضى فترة طويلة من فترات رئاسته الطويلة في الترويج لمشروعاته الوهمية في توشكى والواحات، وهي المشروعات التي شكلت إعلاناتها التلفزيونية أبرز سمات زمن طفولتي، والمثير للاهتمام في مشروعات مبارك هو أنها الأم الشرعية لمشروعات السيسي المفعمة باللامنطقية من المليون وحدة سكنية والعاصمة الإدارية إلى المليون فدان والتفريعة المهيبة.
غير أن مظاهر النصب التي تقوم بها دولتنا لا تقتصر على كونها لا تنجح لأنها لا تريد أن تنجح، بل تتمثل في ادعائها الفضيلة والحكمة والبأس الشديد والتمسك القويم بالأخلاق؛ ففي الوقت الذي حبست فيه كاتبًا مثل أحمد ناجي لأن ألفاظ روايته المثيرة للجدل \”استخدام الحياة\” قد جرحت مشاعر أحد مواطنيها، أكتب هذا بينما لا أستطيع أن أمنع نفسي من الضحك بشكل هستيري على الشرمطة اللغوية التى اتصف بها بلاغ هذا المواطن الذي قال إنه أصيب باضطراب في ضربات القلب وإعياء شديد وانخفاض حاد فى الضغط عندما قرأ الرواية، كأنه كان ملزمًا بقراءة الرواية! أو كأن هذا المواطن \”المؤدب\” لا يسمع هذه الألفاظ عشرات المرات من أبناء وطنه الشرفاء المؤدبين مثله، سواء في الشارع أو في المواصلات العامة أو على المقاهي، بل وفي الشكرات الكبيرة والصغيرة، أو كأنه لا يقوم موظفو هذه الدولة المؤدبة بشدة وللغاية وجدًا جدًا بشتم مواطنيها عشرات المرات يوميًا بما هو أقذع من أي لفظ ذكرته الرواية، وتشمل أماكن الشتم والتي لا تقتصر على: المصالح الحكومية والمستشفيات والمحاكم وأقسام الشرطة وكمائنها، ومؤسستها العسكرية التي يتعلم الرجل منا أثناء فترة تجنيده فيها كمًا مهولًا من الكلمات النابية أكثر من التعرف على أسماء التدريبات العسكرية.
ما الذي يتعين أن يقوله الشخص منا لدولة كهذه ولشعب كهذا؟\’ هل نقول مثلاً: أيتها الدولة المؤدبة، أيها الإخوة المواطنون؛ من لا يطلق منكم شتيمة في يومه من باب التعبير عن قلة المزاج أو التندر أو الغضب، أو السادية -إن كنت ضابط شرطة لا سمح الله- فليرجم الرجل بحجر.
وإذا قلنا هذا؛ هل سيستمع إلينا أحد؟ هل سيكف الشعب عن البذاءة وهو الذي يتنفس بذاءة؟ وهل سيكف ضباط الشرطة وأمنائها ومخبريها عن البذاءة، ونحن ما زلنا نرجو من الله، بعد مرور 5 سنوات من الثورة، أن يكفوا عن تصويب أسلحتهم التى تطلق الرصاص لسبب تافه مثل دفع ثمن كوب الشاي؟
