​​​​طالب الثانوية العامة عبد الرحمن عمران يكتب لـ زائد ١٨: الذين ثاروا ولم يعرفوا

كانت احتجاجات زملائي من طلاب دفعتي إثر عملية تسريب وتأجيل امتحانات الثانوية العامة، إيذانا بطرح تساؤلي: هل نحن بصدد عمل ثوري، أم مجرد احتجاج فئوي يتعلق بأزمة حالية؟ ثم استبعدت أي إجابة للسؤال قبل الرد على تساؤل: هل وضع المنظومة التعليمية يستلزم عملًا ثوريًا، أم مجرد عملية إصلاحية لفساد متكرر يتعلق بتسريب امتحانات؟

ابدأ الإجابة من أزمة تسريب الامتحانات الأخيرة؛ هذا إن صح تسميتها بالأزمة الأخيرة، فهي تحدث منذ عقود طويلة، ولكنها كانت مقتصرة على بعض الطبقات من أصحاب رأس المال، والنافذين، وكبار العاملين بالدولة، وربما كانت هناك واقعة شهيرة سابقة لابن الرئيس الراحل أنور السادات.

هي ليست أزمة منشأة ووزارة، بل إنها أزمة كاشفة لفساد كبير تحت رعاية الدولة.. الدولة ذاتها التي احتجت عندما تحولت عملية التسريبات من الخاص إلى العام تحت رعاية شخصية وهمية تُدعى \”شاومينج\”، أتت في زي النبي المُخلص أو الثوري الواقعي الذي يواجه الفساد بالفساد، ويطرح آراءه المتعلقة بالمنظومة التعليمية، وهو أمر خدّاع للغاية، فعملية التسريبات هي فعل غير أخلاقي في كل الأحوال، ولكنها كانت عظيمة الإفادة في رفع سقف النقاشات والمطالبات الخاصة بالطلاب منذ اللحظة الأولى، المتعلقة بمنظومة تعليمية متطورة قادرة على إستيعاب قدراتهم وإمكانياتهم، والنقاش حول أنظمة بديلة لنظام القبول بالجامعات ونظام بديل للامتحان الموحد والمُسمى بـ\”امتحان الثانوية العامة\”.

إذن، فالأزمة ليست متعلقة بالتسريبات، بقدر ما هي متعلقة بالمنظومة التعليمية ذاتها!

**********

المنظومة التعليمية ما قبل الجامعية تنقسم إلى تعليم أساسي (ابتدائي وإعدادي) وتعليم ثانوي؛ وكلاهما لا يمكن التفرقة بينهما؛ فالطبيعي أن تكون مؤهلًا لفعل شيء ما بعد أن تُتِم تعليمك الأساسي، ولكنك تقف محتارًا لا تدري ماذا تعلمت، أو ماذا يُمكنك أن تفعل بشهادتك الأساسية تلك، وتتجه للاختيار بين الثانوي الصناعي والتجاري والزراعي وغيرهم، أو القبول بالثانوية العامة، والذي يمنحك صك نبالة خاص للقبول بالجامعات، ومكانة اجتماعية زائفة غير مبنية على مكانة علمية حقيقية أو معرفة أو حتى هوية مستقلة يُمكنها الاختيار أو تحديد مستقبلها بشكل واضح، لأنها شخصية مهتزة، كنتاج لتعليم يعتمد التلقين، ويحرم الطالب من حقه في التعبير عن الرأي والتجربة، ويضعه أمام اختبارات مُتعددة لا تقيس مهاراته الحقيقية.
في عامك الأول داخل المنظومة التعليمية، ستُحرَم من حقك في التعبير عن أي رأي يخالف ما تُمليه عليك المدرسة، وتنصاع لأوامر مُعلميك ووصايتهم الأبوية، وتقرأ جملة: \”اخلع رداءك السياسي\” على جدرانها، فتخشى وتكره ما يُسمى بالسياسة قبل أن تدرك معناها!

وفي صفك السابع عندما تبلع الثانية عشر من عمرك، ستجد أنهم فصلوا عنك زميلتك دون تفسير واضح لهذا الفعل! ويضعونك أمام قناعة أن كل تعامل بين فتى وفتاة يقع تحت طائلة مُحرَمات المُجتمع، دون وعي بأن هذا يخلق آلاف المُتحرشين، الذين يصعدون ببلدنا الحبيب لمواقع الصدارة في نسب التحرش على مستوى العالم!

في العام التالي، ستكتشف أن أغلب -بل ربما كل- ما تعلمته على مدار السنوات السابقة، لا تعرف بماذا يُمكنه أن يُفيدك، وأين يمكن تطبيقه في حياتك!

وفي صفوف العلوم والرياضيات، لن تعرف مصادر المعلومات التي تحفظها استعدادًا لامتحاناتك وكيف أتت! كل ما عليك هو الحفظ وعدم النقاش والانضباط!

بعد أن تمر عليك تسع سنوات في المنظومة، وتحين لحظة الانتقال للمرحلة الثانوية، ستجد نفسك وقد تحولت لمسخ متحرك مُحمَلٍ بتشوهات اجتماعية وأحقاد طبقية منطقية، مصحوب كل ذلك بتغييب تكنولوجي وتخلف حضاري وانعدام للشخصية الفكرية والثقافية لك كطالب –كل ذلك ما لم تكن لك مصادر معرفية أخرى.

وفي صفوفك بالمرحلة الثانوية، ربما تكتشف قدراتك وإمكانياتك واهتماماتك الحقيقية خارج حدود المدرسة والدراسة، ولكنك تظل مُكبلًا داخل المنظومة، ما لم تملك صك نبالة يُسمى \”الشهادة الثانوية\”، ولا يمكنك الاعتراض أو الاحتجاج سوى عن طريق الاتحادات الطلابية، والتي ربما تكتشف لأول مرة أنها متاحة لك منذ صفك الرابع، ولكن القائمين على المنظومة لم يمنحوها القدر الكافي من الاهتمام أو التعريف، وجرّموا كل ما عداها من تشكيلات داخل المدرسة، تحت دعوى \”محاربة التطرف\” وتكوين كيانات شرعية وحيدة، ولكنها مُكبَلة بقيد قرار وزاري، والعديد من الموظفين والإجراءات الروتينية التي لا تنتهي، وأخيرًا إجراءات أمنية وتحقيقات قد تودي بك إلى الحبس، كما حدث مع أمين سابق لاتحاد طلاب مدارس مصر! وقد تحمل لك تهديدات بالسقوط والحل والتشريد والإيذاء، كما لو كانت المنظومة عصابة، والحفاظ عليها جزء من الأمن القومي ضد آراء طلاب لم يتجاوزوا الثمانية عشر عامًا!

**********

منذ أيام قليلة وبالتحديد في الحادي عشر من يوليو لعام 2016 قامت قوات الأمن بإغلاق شارع عبد الخالق ثروت، والذي يحوي نقابة صحفيي مصر؛ مقر المؤتمر الصحفي لاتحاد طلاب المدارس، والذي كان من المفترض أن اكون متحدثًا فيه ممثلًا عن الاتحاد، فمُنِعت وزملائي من الدخول للمؤتمر، ليتم إلغاؤه في مشهد ديمقراطي يُتوِج التجربة الديمقراطية للطلاب، وحريتهم في التعبير! وهو نفس الشارع الذي تظاهر به زملائي من طلاب الثانوية العامة، وذات النقابة التي وقفوا على سلالمها للتعبير عن مطالبهم المُتعلِقة بمنظومة تعليمية وعدل ومساواة بفرص الاختبارات بعد التسريبات.

احتجاجات زملائي كانت الشاهد على انكسار هيبة ومقدسات المنظومة التعليمية، والتي عانوا منها لمدة 12 عامًا، ثم لتُكافئهم المنظومة بفساد منقطع النظير وتسريب للامتحانات مصحوب بإجراءات تُعاقب المتضرر، ولا تُحاسب المسئول بتأجيل الامتحانات، دون علاج المشكلة من جذورها، والتمسك بنظام الامتحان الموحد الذي لا يقيس أي مهارات معرفية أو قدرات فردية، ولا يُراعي النطاقات الجغرافية للطلاب أو البنية الاجتماعية لهم وفروق قدراتهم المادية، والتي تتطلب الدروس الخصوصية في منظومة التعليم الحكومي \”المجاني\” الذي لا يوفر للطالب أي شيء.

وهنا يُطرح التساؤل حول التمسك بنظام امتحانات الثانوية العامة!

وإجابتي هي أن امتحانات الثانوية العامة تمثل حالة \”الدولة\” التي تفتقدها الدولة فعلًا؛ نظام منضبط لآلاف الطلاب الذين يمتحنون في وقت موحد من كل عام تحت إشراف من أقصى الجنوب لأقصى الشمال، والتي تُعتبر إنجاز بالمعايير العسكرية للدولة، والتخلي عنها لحساب القدرات والفنيات، هو أمر خارج نطاق حساباته وغير مفهوم حسب العقليات المتحجرة للدولة.

وبالمقارنة مع النظم التعليمية المختلفة الموجودة داخل مصر، والتي تتطلب إمكانات مادية خاصة لا تتوفر إلا لأبناء بعض الطبقات البرجوازية العُليا، وتتمثل في مدارس دولية وشهادات عالمية، فحتى تلك المدارس تخضع للمجتمع المصري الناتج عن المنظومة التعليمية القديمة، الذي أصبح \”مُنتَج مُنشئ\” ناتج عن تشوهات المنظومة القديمة ذاتها، ومُنشئ ومؤثر في هذه المنظومات تحت تأثير خرافات الدرجات والتقييمات، وهو حسب أحد الأصدقاء الذي درس في إحدى المدارس الدولية أن إدارة المدرسة متأثرة بمتطلبات أولياء الأمور والمظاهر المتعلقة بأجنبية المدرسين، بغض النظر عن كفاءتهم والسعي خلف الدرجات وإضعاف المهارات بغرض الانضباط، وهي أزمة نوعية، وليست كمية، ولكنها مازالت تصنع فوارق اجتماعية وثقافية بين طلاب من نفس السن يقطنوا نفس الدولة.

المنظومة التعليمية، هي الانجاز الواضح لأهداف شبه الدولة، من منظومة منضبطة لا تسمح بحرية الرأي وتساعد على نمو التشوهات الاجتماعية تحت غطاء من الانضباط على الطريقة العسكرية، والتي يُعد الاحتجاج عليها وكسرها نوع من الأفعال الثورية التي تواجه الخلل البنيوي للمجتمع بفوارقه الاجتماعية وتشوهاته النفسية، وتفتح طاقات الحرية والتعبير لطلاب في مقتبل عمرهم –أنا منهم- لجأوا للشارع في مشهد عفوي متأثر بالثورة.. حتى وإن لم يدركوا أنه فعل ثوري في مواجهة ظلم، فهو ثوري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top