(كلما سألت عن سبب ظلمي يقولون: \”أوامر من فوق\”.. يا سيادة الـ\”فوق\”، قد تكسر جسدي، لكن روحي حرة وعقلي سليم.. سأظل أطالب بتطبيق لائحة السجون، فهي حقي.. وسأظل احلم بدولة حرة يحكمها العدل لا التعليمات العليا…)
المقتطف أعلاه، هي رسالة حملها المحامي الحقوقي، وسجين الأرض، الأستاذ مالك عدلي لزوجته، المناضلة أسماء علي، من محبسه، كي تبلغها لـ\”الشبح\” الذي يكدر حياة مالك عدلي داخل سجنه على حد تعبيره هو.
********
شرفت بالتعرف على مالك عدلي في العام 2008، وأذكر أن أول تعليق قلته عنه: إيه ده؟ ماله ده؟ هو على طول شغل شغل شغل؟ الراجل ده ما بينامش؟ ما بياكلش؟ ما بيدخلش الحمام؟!
في ذات الوقت، شرفت أيضا بأن أكون أحد الشهود على قصة الحب -الناشئة وقتها- بينه وبين أسماء علي، والتي أظن أن ما جمعه بها بالأساس هو ميلها هي الأخرى للتفاني في العمل التطوعي حد الانتحار.
\”يا جماعة أنتوا ما بتعملوش حاجة تانية؟ الحياة فيها حاجات تانية تتعمل.. وده شغل بلوشي.. يعني مش بفلوس.. طب بتلحقوا تحبوا بعض إمتى طيب؟\”، هكذا كنت أضاحكهما.
********
كنت رويت قصة قبل ذلك تلخص شخصية مالك عدلي، وسأرويها مرة أخرى.
في ذات المرات، تقدم والد أحد الشباب المقبوض عليهم في إحدى التظاهرات نحو مالك عدلي قائلا: بس أنت يعني متفاني، وبتيجي جلسات ابني قبل ما أنا أوصل، وباتصل بيك في أي ساعة من الليل أو النهار ترد عليا، وكل ده ببلاش..
فاعتقد مالك أن الرجل يثني عليه، فأجابه باسما: العفو يا حاج، ده أقل حاجة أقدمها لابنك.
فباغته الوالد بنظرة ارتياب متسائلا: ليه؟! بتعمل كل ده مع ابني ومن غير ولا مليم ليه؟!
فقال مالك: يا حاج ابنك شاب زي الفل، ابن ناس محترمين، طالب جامعة، والمستقبل قدامه، ومع ذلك نزل مظاهرة وعرض نفسه وحياته وحريته للخطر ليه؟
فسارع الوالد بالإجابة: عشان أنا ابني قليل الأدب وما عرفتش أربيه.
فجاءت إجابة مالك أكثر سرعة: وأنا كمان يا حاج قليل الأدب زي ابنك وأبويا ما عرفش يربيني.. ثم انطلق إلى جلسة الشاب.
********
كان معظمنا مؤخرا قد ركن إلى اليأس، نظر كل منا حوله، فلم يجد إلا أناسا، ينطبق عليهم المثل المصري القائل: \”اللي يوضيهم زي اللي ينجسهم\”، بل إن الذي يوضئهم يتهم بالخيانة والعمالة، بينما الذي ينجسهم، يحسبونه الوطني الشريف، يطوعون له آذانهم وعقولهم كالصلصال، يفعل بهما ما يشاء، يبصقون في وجوهنا بعض الهراء والنفايات الإعلامية، التي إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن إعلاميي مصر ومن ينصتون إليهم، لا يملكون في رؤوسهم عقولا، بل يحملون عورات وجب تغطيتها وحجبها عن الإنسانية حتى لا تحدث فتنة، لكنهم خرجوا علينا بعوراتهم الذهنية مكشوفة للعيان بلا حياء ولا خجل، وتابعهم من يتابعهم بكشف العورات، وأصبحنا في محيط يصرخ دوما: أخرجوا آل لوط من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون.
لكن لسبب مجهول، قرر مالك عدلي ألا يستسلم لليأس، وقرر أن يقتحم المواخير الإعلامية، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، منبها السادة المكشوفين: اختشوا عيب كده.
في مقابل كفاحه من أجل الدفاع عن القيم السامية والمحترمة، تحمل مالك إهانات وسفاهات وصلت إلى حد التعرض لزوجته الكريمة، بل ولابنته الطفلة الجميلة، التي أطلق عليها اسم \”بهية\” من فرط حبه لمصر!
كان مال ينبري مدافعا عن الثورة، وعن قيم العدالة، والقيم الوطنية التي نشأنا عليها –لا القيم الوطنية المستحدثة، والتي تصم من يدافع عن أرضه ويعادي الكيان الصهيوني بالخيانة، بينما من يصادق إسرائيل ويبارك التفريط في الأرض فهو وطني– ويتلقى بوجهه سفالات امرأة تقول له: وأنا حابعت لك حتة أولويز هدية! أو سفيه آخر يقول له: وأنا حاجيب لبنتك بيبي دول! ثم افتراءات للطعن في نزاهته: أنت عامل لي فيها أحمد عرابي؟ وأنت كنت بتشتغل معانا في أمن الدولة!
وحقيقة لا أفهم، إذا كان العمل في أمن الدولة مشينا إلى هذه الدرجة، فلماذا يتمسك سيادة اللواء بالاستمرار في هذا العمل المشين، أما إذا كان جهاز أمن الدولة جهازا وطنيا محترما، فما العيب في أن يعمل معه أي مواطن؟!
كان الأصدقاء والمقربون يحاولون إثناء مالك عن الاستمرار في الظهور والدفاع عن الثورة، وعن الأراضي المصرية: يا مالك ده كمين.
لكنه كان يصر: حاطلع ومش حاسكت لهم، ولو حصلي حاجة، حاخلي بهية تكمل بعدي.. أنا حاحكي لبهية كل حاجة، حاقولها إني دخلت المشرحة على أعز الشباب، وكنت بادخل صباعي في جرحهم عشان أثبت إنهم ميتين بطلق ناري، مش بجرح قطعي زي ما الطب الشرعي كان بيبقى عايز يكتب، وحاحكي لها عن اللي شلتهم ودمهم غرق قميصي، وعن الأمهات اللي شايلة صور عيالها وجاية تسألني عليهم، وحاحكي لها عن الناس اللي اتحبست، حاحكي لها عن الثورة، واللي مات، واللي عينه راحت، حاقول لها كل حاجة، وهي لازم تكمل بعدي.
فقلت له: مش من حقك تعمل كده في طفلة.
فأجاب بعناد: لا حاعمل كده.. وباعمل كده.
********
بعد أن خسرنا جزيرتي تيران وصنافير، كاد الحزن أن يطيح بحياة المحامي الشاب، كان القهر يقفز من عينيه، ولسبب ما أخذ على عاتقه مهمة استعادة الأرض!
“أنا حارفع قضية.. مين قال جاي؟\”
أغلبنا كان قد أعطى توكيلاته لمالك: يا مالك معاك توكيلاتنا أعمل بيها اللي أنت عايزه.
وبالطبع لم يكتف برفع القضية بالتضامن مع زملائه من المحامين خالد علي وطارق العوضي وزياد العليمي وغيرهم، لكنه أصر على الخروج على الناس ليشرح لهم بالأدلة أننا خسرنا أرضا مصرية، وأنها من حق مصر.
قال مالك: اللي يفرط في أرضه.. يبقى خاين.
فأسرها النظام في نفسه، وعزم على الانتقام من ذلك العنيد النحيل.
********
قبل أن أروي تفاصيل القبض على مالك عدلي، أنوه أن المحامي مالك عدلي أعد رسالة الماجستير في الشريعة، وكانت لديه فرصة لاستكمال رسالة الدكتوراه في فرنسا، لكنه آثر البقاء هنا في مصر.. بعيد عنكم وعن السامعين.. بيحبها.. بيحب مصر! للأسف.
مالك الذي يحفظ القرآن، ودرس الشريعة، ويجيد اللغتين الفرنسية والإنجليزية، كانت لديه فرص كثيرة للعمل، والدراسة، أضاعها كلها، كي يظل بقية حياته يركض خلف المظلومين، والمعتقلين، والقتلى.. يركض خلف مصر كعاشق وله، وهي تزيد في الدلال.
أثناء القبض عليه، تم التعدي على مالك بالضرب، وخلع قميصه، ثم سيق إلى نيابة شبرا الخيمة، التي حضرت خصيصا فجر الجمعة، للتحقيق مع مالك، وهو أمر نادر الحدوث، لا يحصل إلا مع مجرم عتيد الإجرام، خوفا من هروبه، أو من انتقام عصابة مسلحة مثلا تأتمر بأوامره، لكن ذلك حدث مع مالك، الذي يزن 55 كيلو جراما، ولا يحمل سوى لسانه الطلق، وقلبه المفعم بحب هذا البلد.
بعد تحقيق دام حوالي أربع ساعات، طوى وكيل النيابة أوراقه ونظر إلى مالك في إكبار واحترام: أشهد أنك مفوه، مطلع وقارئ للقانون والتاريخ، وبعد أن أبدى إعجابه بإجابات مالك التي قال عنها إنها تُدّرس، أمر بحبسه 15 يوما على ذمة التحقيق!
التهم الموجه للمحامي مالك عدلي، تشبه إلى حد كبير التهم التي وجهت إلى عادل إمام في فيلم \”الواد محروس بتاع الوزير\”، يمكنك مراجعة الفيلم.. مش عارفة، قلب نظام الحكم، وزعزعة السلم الاجتماعي، وإشاعة أخبار كاذبة، والانضمام إلى جماعة خارج إطار القانون –ولم يتم تسمية هذه الجماعة- إذ أنه من الصعب، بل من المستحيل اتهام مالك بالانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، خاصة أنهم في ذات الوقت اتهموه بأنه ضُبط في حالة سكر بّين! فما تعرفش بقى هو إخوان ولا سكران، ولا إيه بالضبط؟! لكن للأسف، لم يتم ذكر ماسورة شبرا والعولمة في التهم الموجهة إليه.. المرة الجاية إن شاء الله.
********
تم نقل مالك – في حراسة مشددة -وكأنه خُط الصعيد- إلى سجن طرة، وإيداعه في زنزانة إنفرادية، لا يرى شمسا ولا قمرا على حد تعبيره، لا يرى وجها غير وجه مأمور السجن، لا يتناول الدواء –حيث إنه مريض بضغط الدم – لا يأكل سوى طعام السجن المزري، لا يشرب سوى الماء الملوث، وحين قال للمأمور: هي المية مالها صفرا كده؟ أجابه: ده اللي عندنا.. عايز تشرب ولا إيه؟
ظل هكذا لمدة 13 يوما، ثم نُقل إلى جلسة التجديد، فسجل أمام النيابة الانتهاك الصارخ للوائح السجن الذي مورس معه، وتم تجديد حبسه على ذمة قضية \”الواد محروس بتاع الوزير\” 15 يوما.
بعدها تمكنت زوجته من إدخال طعام آدمي، حاربت وناضلت من أجل إدخال بعض الكتب، أو الصحف، أو راديو!
– ملحوظة: كل ذلك منصوص عليه في لائحة السجون، إلى جانب التريض لمدة ساعتين.
بالفعل تمكنت من إدخال كتابين وراديو، تم سحبهم جميعا من مالك بعدها بعدة أيام!
هو الآن محروم من كل ما تنص عليه لائحة السجون المصرية: لا كتب، لا زيارة للمكتبة، لا تريض، لا صحف، لا دواء، لا سرير، لا مرتبة، ولا حتى وسادة.. ينام على البلاط، ويعاني من آلام في العظام والظهر، إلى جانب ضغط الدم.
********
أثناء كتابة هذه السطور، يقبع مالك عدلي في زنزانة مظلمة ضيقة، يعاني من ارتفاع ضغط الدم الذي يصل كثيرا إلى 160 على 130.. معرضا للإصابة بالجلطة في أي لحظة، بينما يشاهد وزير الخارجية المصري نهائي كأس أوروبا لكرة القدم مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو!
في محبسه، ربح مالك قضية \”تيران وصنافير\” في الدرجة الأولى من التقاضي، فتقدمت الحكومة المصرية بالطعن على الحكم الذي حكم بمصرية تيران وصنافير، فتم تحديد الجلسة بعد أسبوع من الطعن.
في ذات الوقت، تقدم مالك عدلي بطلب عاجل للنظر في أحواله داخل السجن، وتحسين ظروفه في محبسه، فتم تحديد جلسة عاجلة في….. 5 سبتمبر!
في الجلسة الأخيرة، قبل العيد بيومين، تم تجديد حبس مالك عدلي لمدة 15 يوما، قرر المحامون تأجيل الاستئناف على قرار النيابة لما بعد العيد، لكن مالك فوجئ بأنهم أخبروه أن المحامين قد حددوا الاستئناف في اليوم التالي، فسألهم: المحامون عايزين يستأنفوا بكرة؟ فقالوا له: أيوه.. حتمضي؟ فقام بالتوقيع.
وحين ذهب إلى جلسة الاستئناف، فوجئ بأن المحامين لم يتقدموا بطلب الاستئناف، وأن الذي استأنف هي النيابة ذاتها، وأن المحامين ليس لديهم إخبارية بتلك الجلسة، ولولا أن اثنين من المحامين كانوا في المحكمة لحضور جلسة لمتهم آخر، لما علم أحد بما حدث! وبالطبع تم رفض الاستئناف.. كان الهدف إضاعة فرصة الاستئناف على المحامين، وقد تم.
نشتكي لمين يعني إحنا دلوقت؟
نشتكي لمين؟
إلى الله المشتكى.. كل هذا التنكيل، لأن مالك عدلي قال إن تيران وصنافير مصريتان؟ أم لأنه قال بإن 25 يناير ثورة؟ أم لأنه قال أن من يفرط في أرضه خائن؟
ياللعجز وقلة الحيلة التي أشعر بهما! لا أملك سوى الطواف بأولياء الله الصالحين، والدعاء في كل سجدة على الظالم، والحسبنة على السبحة.. إلى الله المشتكى.
الأوامر من فوق.
يا هذا الذي فوق.. فوقك من لا يغفل ولا ينام، ويملي للظالم، فإذا أخذه لا يفلته، ولا ملجأ لنا الآن، ولا منجى من ظلم الذي فوق، إلا إلى الذي فوق الجميع مهما علا شأنهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قضت بهية شهر رمضان والعيد كاملين بدون والدها، تصحو كل يوم لتسأل: فين مالك؟ أنا عايزة مالك، ومالك غير موجود.. لم يسرق أموالا عامة، لم يقتل، لم يتاجر في الممنوعات، لم يتاجر في الآثار، لم يخن، لم يفرط.. فقط دافع عن أرضه.. ببساطة، لأن مالك ينتمي إلى أسرة من الريف المصري، قدمت تضحيات وشهداء في حرب أكتوبر، وكان يجلس وهو طفل مع أطفال عائلته أمام كبار العائلة الذين حاربوا ليسمع قصص البطولات، ويتمنى لو أنه كبر أن يدافع عن أرضه كما فعل هؤلاء.
ما أنتم اللي ضحكتم علينا! قعدتوا تفرجونا على \”الرصاصة لا تزال في جيبي\”، و\”بدور\”، و\”الطريق إلى إيلات\”، و\”حكايات الغريب\”، و\”رأفت الهجان\”، و\”جمعة الشوان\”، وتسمعونا في أغاني، وأحمد زكي في \”أبناء الصمت\” يقول: الدم غالي بس التراب أغلى، لما سخنتونا خالص من وإحنا صغيرين، جايين دلوقت تقولوا لنا أمكوا في العش ولا طارت وسيبكوا بقى من موضوع الدم والتراب، لا الدم غالي ولا التراب غالي.. مفيش أغلى من الرز.. خصوصا لو بسمتي!
الخبر السار الوحيد في حبس مالك عدلي، هو أنه ممنوع عنه الصحف وأي اتصال بالعالم الخارجي، ومن ثم، فهو لا يعلم أننا بصدد سلام دافئ مع إسرائيل، ولا يعلم بزيارة سامح شكري للكيان الصهيوني، ولا بمباراة نهائي الدوري الأوروبي، وهذا أمر مريح، وأرجو ألا يخبره أحد بهذه الأخبار السارة، فحالته الصحية الآن لا تتحمل، وحياته تتعرض لخطر محقق بسبب ظروف محبسه، وهو لا يحتمل أن يشنف آذانه بهذه الأخبار.
يا مالك..
استودعناك وأنفسنا الله العدل الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.
نحن وأنت في جاه جدك رسول الله وحفظ وكنف رسول الله.. صلوات عظمى من ربي وسلام لرسول الله، لا خلق أبدا يقدرها تعظيما لرسول الله.
فوضنا الأمر لصاحب الأمر.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.