د. أشرف الصباغ يكتب: أمي أنا كمان قالت لي إن تيران وصنافير مصرية

لا شك أننا جميعا نحب أمهاتنا ونقدسهن، ومن لا يحترم أمهات الآخرين، فهو لا يحترم أمه. ولا شك أن كلمات أمهاتنا الجليلات وعبارتهن لنا في الصغر، كانت تمثل دروسا كاملة في الحياة. ولكن ليس من الطبيعي أن تصبح كلمات أم أحد منا بصفته رئيسا أو وزيرا أو مديرا هي الأصح من كلمات أم المواطن العادي، وأن كلماتها هي التي يجب أن تهتدي بها الأمة.

من جهة أخرى، من الصعب أن نتصور أن الرئيس أو المدير لكونه رئيسا أو مديرا، فهو ابن تسعة، وأن المواطن، ابن سبعة! وإذا كانت السيدة الكريمة أم أي مسؤول في الدولة قد قالت له نصيحة ما، وفهمها هو بطريقته، فهناك كثيرون آخرون أكدت لهم أمهاتهم، بأن تيران وصنافير مصرية.. وفي الحقيقة فأم أي مسؤول هي أم واحدة، بينما أمهات المواطنين، كثيرات جدا!

في الحقيقة، هناك بند موجود في كل قوانين العالم، ألا وهو بند \”العيب في الذات الرئاسية\”، وهو بند يحافظ على العلاقة بين رئيس الدولة كشخصية رمزية من جهة وبين مواطنيه ووسائل الإعلام من جهة أخرى.. هذا البند مهم جدا لأنه يعكس درجة الإتيكيت السياسي والثقافة والتهذيب، والأهم أنه يعكس العلاقة الناضجة بين الحاكم والمحكوم، لأن هذا البند يقابله في القانون والدستور بنود كثيرة تلزم الرئيس باحترام المواطن. والكلام لا يدور إطلاقا عن الدولة والنظام، ولا عن الحكومة والمجتمع، وإنما تحديدا عن الرئيس والمواطن.

الرئيس يجب أن يعرف حدوده في الخطابات الرسمية، والكلام مع مرؤوسيه، وفي انتقاء الألفاظ مع الناس ووسائل الإعلام، وفي الذوق الخاص بالملابس والحركة والبروتوكول، وأن لا يتجاوز تلك الحدود مهما كان لكي لا يفقد هيبته وكاريزمته من جهة، ويضع نفسه في موقف قابل للرد عليه بالسخرية أو الاستخفاف أو ضرب الهيبة، أو العيب في الذات، كما أن انتقاص حقوق المواطن، والتعدي على هذه الحقوق شكل من أشكال تعدي الحدود وإساءة استخدام السلطة، ما يجرِّد المواطن من أشياء كثيرة يخاف أن يفقدها، ويضطر للرد بالمثل على الرئيس ليس كرمز هنا، وإنما كموظف عام يؤدي عمله ولم يلتزم بقوانين العمل، بل تجاوزها وتجاوز حدوده كرمز وكموظف عام في آن واحد.

وبالتالي، فحكم المحكمة، سواء كانت الإدارية العليا، أو النقض أو حتى الدستورية العليا، لا يكون ملزما للمواطن إلا في حدود الحقوق العامة وحقوق المواطنة وما ينص عليه الدستور في هذا الباب، لكنه لا يكون ملزما للمواطن إطلاقا في الأمور السيادية التي تحتاج إلى آليات اجتماعية وشعبية عامة، وأخرى قانونية – دستورية مهنية صرفة.
وفقا للمشهدين الإقليمي والدولي، هناك تحولات كبرى تجري لترسيم جملة من مفاصل العالم الجديد. وبالتالي، فموضوع جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، ليس هو الموضوع الأساسي في صفقة كبرى لدعم النظام السياسي الحالي، وإنما يأتي ضمن مشروعات كبيرة لانتزاع مصر كلها والسيطرة على مؤسساتها عبر عملية معقدة وطويلة الأمد بدأت بإضعافها وبتشجيع الفساد السياسي ودعمه منذ بداية النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين.

الموضوع، إذاً، هو مصر كلها، والجزيرتان مجرد جس نبض، وفي حال تم تمرير الأمر عبر جملة من الأفخاخ القانونية والإعلامية والأمنية، فسوف يستمر السيناريو للقبض على روح المصريين وإعادة تشكيلها، ومن ثم استخدام دور مصر \”المفترَض\” لصالح مشروعات أخرى تخدم قوى إقليمية تسعى لشغل دور الصدارة.

لقد نجحت القوى الوطنية، ومحاموها ونشطاؤها، في تحويل قضية تيران وصنافير إلى القضاء، لا من أجل إثبات الملكية، ولكن من أجل إبطال الاتفاقية التي تم توقيعها على غرار الأمر المباشر في المناقصات والعطاءات التجارية، بينما يحاول النظام السياسي تصوير الأمر على أنه نقل القضية من قضية وطنية ملك للرأي العام وللشعب بموجب الدستور، إلى مجرد قضية نزاع \”ملكية\” في ساحة القضاء بين الشعب والنظام السياسي.
لقد حكمت محكمة القضاء الإداري في مرحلتها الأولى لصالح الشعب، وفجأة، وعلى غير العادة، ظهر رئيس الوزراء ليعلن في ثقة تامة بأن حكومته راضية بحكم القضاء وسوف تقدم المستندات اللازمة لدعم موقفها!

وإذا نظرنا إلى تصريح رئيس الوزراء، سنكتشف أنه تفادى أن يذكر تيران وصنافير، وإنما ركز على كلمة \”موقفنا\”! أي ببساطة تعمَّد أن يقصر الموضوع على أنه مجرد قضية نزاع \”ملكية\” ليس بين مصر والسعودية، وإنما بين الشعب المصري وبين النظام السياسي! وبمعنى آخر، أمعن رئيس الحكومة في تجريد الموضوع لإيصاله إلى حده الأدنى، مفرغا إياه من مضمونه الحقيقي، ليعطي انطباعا بأن هناك مواقف معينة في قضية نزاع على ملكية \”حتة أرض\”، متجاهلا في الوقت نفسه أن وحدة أراضي البلاد لا يمكن أن تكون قضية رأي، وإلا كان التجسس قضية رأي، والقتل قضية رأي، والتجويع والتجريف والفساد مجرد قضايا رأي!

لقد رحبت الحكومة المصرية بقرار المحكمة الإدارية العليا، وقدمت طعنا يهدف إلى إبطال الحكم لصالح وحدة الأراضي المصرية.. أما الاحتمالات المتوقعة، فهي إما أن يتم تغيير القاضي، أو تغيير المحكمة، أو إصدار حكم جديد بإبطال الحكم القديم. وإذا كانت الحكومة قد قبلت بحكم المحكمة في المرة الأولى، فعلى الشعب ومحامييه أن يقبلوا بالحكم الثاني ويلتزموا به وبتنفيذه، ويمتنعوا عن أي إجراءات أخرى، حتى وإن كانت بموجب الدستور.. هذا هو الفخ الذي نصبته الحكومة المصرية من أجل التنازل عن الأراضي المصرية لصالح دولة أخرى! وهو ما يذكرنا بمؤامرات الأطفال الصغار، وتكتلات انتخابات اتحاد الطلبة في المدارس، وليس حتى الجامعات، أو إذا شئنا الدقة، يذكرنا بالتمارين الذهنية والمناورات الساذجة التي تمارسها التنظيمات المغلقة، وعناصرها التي تتوسم في نفسها القدرة على الخداع والمناورة ونصب الأفخاخ اعتمادا على ضعف الطرف الآخر أو خوفه أو سذاجته.

وفي نهاية المطاف، فإن قضية تيران وصنافير، قضية شعب وقضية رأي عام، حتى وإن كان القضاء قال، وسيقول، كلمته، وبصرف النظر عن الحكم. فهم (أي الطرف الآخر للنزاع والذي تمثله الحكومة المصرية) يتصورون أن يوم ١٢ فبراير ٢٠١١ سيتكرر، وسيفرح الناس وينزلون إلى الشوارع لتلميع الأرصفة وتلوينها وإطلاق الأغاني الوطنية والعاطفية، والجلوس في البيوت في انتظار نتائج الثورة والرخاء الهابط من السماء.
هذه القضية لا يمكن أن تغفل مساحة الشارع أو تتجاهل الرأي العام، ومسألة الإفراج عن \”شباب الأرض\” هي مجرد جزء من الفخ للتأكيد على حسن نوايا الخصم (الحكومة المصرية التي تمثل الطرف الآخر في هذا النزاع) ضد الشعب، وبالتالي، فمن الصعب أن يمر هذا الفخ، ومن الأصعب أن يقع فيه المحامون أو القطاع الذي يقف في مواجهة التنازل عن الأرض. فكل قضايا الجزر العالقة بين الدول، هي قضايا سيادية تتعلق مباشرة وبالدرجة الأولى بالشعب وبنصوص الدستور قبل القضاء، وإذا شئنا الدقة، فهي تتعلق بسيادة البلاد، وهناك آليات كثيرة، عبر الدستور، تنظم هذه العملية.. أي أنها لا تتم بالأمر المباشر وكأنها \”مناقصة\”.
ومن أجل التأكيد، فقضايا الجزر والأراضي بين الدول لم تحل أبدا بالشكل الذي تحاول الحكومة المصرية والنظام السياسي أن يفرضاه على المجتمع المصري والرأي العام التفافا على الدستور وحقوق المواطنين والأجيال المقبلة. وجزر الكوريل لا تزال عالقة بين روسيا واليابان، وقد عرضت الأخيرة ١٦٠ مليار دولار على الحكومة الروسية في تسعينيات القرن العشرين عقب تفكك الاتحاد السوفيتي ووقوع روسيا في فوضى اقتصادية وسياسية واجتماعية، ولكن موسكو رفضت العرض، وإلى الآن لم توقع موسكو وطوكيو معاهدة سلام.
هناك أيضا جزر فوكلاند بين بريطانيا والأرجنتين، وهناك جزر طنب الصغرى والكبرى بين الإمارات وإيران.

ولا يمكن أن نتجاهل أمثلة كثيرة بين المغرب وإسبانيا، وبين تركيا وسوريا.

وبالتالي، فقضايا الأراضي بين الدول لا تحل بالأمر المباشر على طريقة المناقصات والعطاءات، ومهما كانت المشاريع السرية والخطط السرية، فهناك آليات لتنفيذ بنود الدستور، وبالذات في قضايا تخص الشعب بالدرجة الأولى، علما بأن هذه القضية، هي قضية رأي عام ومجتمع وسيادة، وليست مجرد قضية في محكمة، أو قضية خاضعة لإثبات ملكية.
وليس مصادفة أن تتندر وسائل الإعلام العالمية وتسخر في دهشة من أن الحكومة المصرية تحاول أن تثبت بالوثائق ملكية دولة أخرى لجزيرتين مصريتين!!
إن قضية ملكية تيران وصنافير لا يمكن أن تناقش كقضية ملكية، لأنها ببساطة مسألة مفروغ منها وليست بحاجة إلى إثباتات أو وثائق تاريخية وقانونية، بقدر ما يجب أن تناقش وتقدم إلى ساحات المحاكم كنزاع بين النظام السياسي الذي يتعامل مع أراضي البلاد باعتبارها ملكية خاصة للرئيس وأعضاء الحكومة، وبين الشعب المالك الحقيقي للأرض والمدافع في الوقت نفسه عن حقه في صيانة وحدة أراضي بلاده.
وبصرف النظر عن حكم المحكمة الإدارية في المرحلة الأولى، وعن حكم المحكمة في المرحلة الثانية، فقد ظهر نواب من البرلمان \”المصري!\” يوكدون بخبرة واسعة وذكاء نادر على أن حكم محكمة القضاء الإداري غير ملزم للبرلمان، وهو ما نراه لأول مرة في التاريخ، بأن يقف برلمان معلنا عدم اعترافه بأحكام قضاء بلاده، ومعلنا أيضا استهتاره بها، وهو ما يعيدنا إلى بداية الموضوع أعلاه بشأن استهتار الرئيس بالمواطن، واستهتار الحكومة بالمجتمع، واستهتار النظام السياسي بسيادة الدولة.
إن التفاف الحكومة على حكم المرحلة الأولى، وظهور أزمة بعد حكم المرحلة الثانية، أمران طبيعيان، ولكنهما ليسا جوهريان، فالجوهري هنا هو عدم السماح للنظام السياسي وحكومته وأجهزته القضائية والأمنية بنقل القضية إلى المحاكم حصرا كقضية نزاع على ملكية، وإنما كقضية إبطال إجراءات تعسفية لا تستند إلى الدستور والقانون في قضية سيادية تخص أراضي الدولة وتهدد وحدتها وسيادة أراضيها.

ولا يجب أيضا نقل القضية إلى ساحة مجلس النواب مع تدشين النظام حملات إعلامية وضغوط على القضاء والمؤسسات الأخرى، وقمع المعارضين والتضييق عليهم. وفي الوقت نفسه، من الضروري بحث مسألة سحب الثقة من مجلس النواب كخطوة أولى لمواجهة الطابور الخامس والخلايا النائمة وغير النائمة التي تعمل لحساب دول أجنبية، والبدء في تنظيم حملات إعلامية وقانونية باستخدام كل الوسائل الممكنة، ومواصلة الاحتجاجات الشعبية لنزع الثقة عن الحكومة، وتقديم المسؤولين عن الكارثة للمحاكمة.. كل ذلك كخطوات أولية في سلسلة إجراءات شعبية وقانونية تعيد لمصر هيبتها، وللمصريين كرامتهم بالمعنى، الاجتماعي الواسع لهذه الكلمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top