لسنا مُفرطين في الأمل ولا نتسوّله، فالقضيّة لم تكن أكثر من إثبات موقف ومحاولة لبثّ صوت آخر أمام صوت الجنون الذي ملأ النفوس ولم يغادرها حتّى الآن.
وقفنا كمواطنين أمام الهزل والعبث بالعقل والمنطق والذي وصل إلى ذروته مؤخراً إلى حد اتهام أي مُختلف على أي شيء بالخيانة والتآمر، والذي قد يصل قريباً -لو سار على هذا المنهج الهيستيري- إلى حد التراشق بالاتهامات بين المختلفين على أنواع الطعام والشراب، كُل منّا قال لا بطريقته، فالبعض كتب والبعض تظاهر والبعض خرج في الإعلام ليقول كلمة حق يراها رؤي العين، وهناك أيضاً من سلكوا طريق القانون لإثبات وتوثيق الحق حتى ولو بملف قضيّة قد يُلقى به على قارعة طريق أو مجرى نهر.
لم نُفرط في الأمل إلى درجة الظن بأنه قد يصدر حكماً بعودة أرض تم تسليمها باتفاق رسمي، واحتشدت لنصرة هذا الاتفاق كافة الأذرع في الإعلام والجهات الأمنية والسياسيّة، كما لم نطمع سوى في جمع ما يثبت هذا الحق وتقديمه أمام الجميع لأحد الموكَّل إليهم نصرة الحق أمام ما نراه باطلاً، فقد دفع الكثيرون ثمناً باهظاً لذلك الحق من تفريق وعراك وسجن وتخوين وتشويه سُمعة دون أي تردد، واليوم وبعد أن قالت المحكمة ما تراه، فقد انتصر هؤلاء لأنفسهم وللحق الذي آمنوا به وجاهروا بذلك الإيمان.
هل سيصمت الخصم؟ بالقطع ودون تفكير لن يصمت ولن يقف كل هؤلاء مكتوفي الأيدي أمام حكم المحكمة، سيطعن هذا ويشجب ذلك وتعبث تلك، وقد يحصلوا على حكمٍ جديد مضاد لهذا الحكم بأحقية مصر بأرضها ذات التراب المختلط بدماء من حاربوا لأجلها على مَرّ التاريخ، ولكن أين يكمن انتصارهم في ذلك؟ فانتصارهم حينئذ سيصبح مجرد قدرتهم على الصياح مجدداً لما صاحوا لأجله وحملوا أعلام دولة أخرى أمام أعلام بلادهم، ربما كيداً وربما احتقاراً للذات أو للوطن والعياذُ بالله.
ليس أمام هؤلاء الآن سوى أن يقلبوا الطاولة ويزيحوا الخصم ويعيدوا ترتيبها دون طرف آخر، كالطفل المدلل الذي لا يريد أن يهزمه والده في الشطرنج، فيقلب اللعبة ويعيد رصّ القطع بما يجعله يبدو فائزاً.
الخصم هنا يمتلك قواعد اللعبة ويملك تغييرها أو إعادة ترتيبها، ولكنه لا يملك محو التاريخ التلقائي الذي نشأ بقوّة دفع الحق تجاه قانون الطبيعة دون أن يلتفت الباطل إليه متكبّراً متعجرفاً متجاهلاً كُل شيء عن شرف الخصومة، الخصم هنا أمام أدلّة تقدّم بها آخرون أثبتت وجهة نظرهم، ولا يملك سوى \”الطعن بعدم الاختصاص\”، وليس الطعن في صميم الحكم وحيثياته.. أليس هذا انتصاراً؟
الانتصار الحقيقي هنا هو وضع موطئ قدم أمام الصوت الواحد، أثبت -بقوّة جدارته ومنطقيّته- امتلاكه لأبسط وأدق قواعد العقل والتفنيد للطرف المقابل، مما أعطاه حق الوجود رغم كُل شيء. النصر الحقيقي هنا هو إجبار حكومة دولة، إما على التسليم بالخطأ والاعتراف به، أو الطعن والسعي الدؤوب نحو إثبات عدم أحقيّة بلادها بأرضها، والقيام بدور محامي دولة أخرى يطعن ويشد ويجذب، لا لأجل بلاده، بل لأجل دولة يفترض بها أن تكون خصماً في خلاف على ترسيم الحدود.. أن نصبح نحن من نقدّم أدلة تقول إن \”الأرض مصريّة\”، وتصبح الحكومة هي من تقدّم الطعن الذي يقول \”ليس الأمر من اختصاصكم، ونحن نراها سعوديّة\”! أليس هذا هو أكبر انتصار؟ أن تُجبر خصمك على خلع كافة الأقنعة، وهو الذي يمتلك الباب والقفل والمفتاح.. أن تغرس أصابع يدك في الأرض وتجذب حكومتك الأرض لتقذف بها إلى خارج بلادك.. أن يرى الجميع من يقف في صف من، أليس في كُل ذلك ما ينطوي على انتصار وتكليل لكفاح وجهد كُل من آمنوا بفكرة وضحّوا لأجلها؟ ألم ينتصر \”مالِك عدلي\” اليوم؟