ومن العشق \”الوله\”، وفيه أن يغيب المحب هياماً في المحبوب، لكنك إن فقدت نفسك، وبقى حضوره مسيطراً بلا حدود، لن تملك أن تحس بشيء، فأنت بك وبه حاضراً.
يعشق كاتب –أيا من كان- مسلسل (أفراح القبة) نجيب محفوظ، وكذلك يفعل مخرجه، فيستعذبا حضور محفوظ في الكيان الفني الذي يجسدا فيه روايته، لكنهما إذ يفعلا لا يغيبا، إلا لكي يحضرا من جديد، ولا يغطساً إلا ليعودا لنا بما لذ ولذ وطاب.
من الصعوبة بمكان أن تمد يديك لتشّرح هذا الكيان الفني ليتكشف لك جماله، لكن يبقى ذلك -مع ذلك- ضرورياً، لأنه سيفسر مبعث كثير من متعة نستشعرها كمتلقين لهذا العمل، ولمن ندين بفضل هذا الاستمتاع أو ذاك.
افترض معي أنك مترجم لنص تحبه.. هناك عدة سيناريوهات يمكن أن تتعامل بها مع النص، واحدة منها أن تعطيه درجة من التقديس، فتحاول أن تنقله نقلاً حرفياً بكل الجماليات التي يحويها في لغته الأصلية، لكن هناك مقولة معروفة في هذا المجال تقول: \”أيها المترجم العظيم.. أيها الخائن العظيم\”.. لماذا؟! لأنك -بقدر ما- يجب أن تخون النص، لتخلق روعة موازية في اللغة المنقول إليها. وينطبق هذا الكلام على التعامل مع الرواية.. لماذا مرة أخرى؟!
لأن الرواية وسيط، والمسلسل وسيط، والمسرح وسيط، ولكل منهم جمالياته، وإن تكن الدراما هي العباءة الفضفاضة التي تلمهم، المسلسل مثلاً هو مصفوفة \”فرجوية\” تتابعية ممتدة، والمسرح فرجة ملتزمة بخشبة مسرح، أو بمساحة للتمثيل، حدود لحرية الإبداع يحكمها عنصري الزمان والمكان.. الرواية ليست فعلا \”فرجوي\” بالأساس، لكنها تعتمد على استدعاءات أرحب، وهي استدعاءت الخيال عبر فعل القراءة والتلقي.. كل وسيط له خصوصية، لو أنك تنقل من وسيط لوسيط، وكنت أميناً للوسيط المنقول منه، ونسيت خصوصية المنقول إليه، فأنت خائن بأمانتك تلك ولأمانتك تلك.
ما يحدث في معالجة المسلسل لراوية نجيب محفوظ، فعل إعادة ميلاد -لنقل بعثا- قبض من الخميرة الدرامية، وتفعليها لتسرح في العجين الحديث، يستخدم الراحل الباقي نجيب محفوظ منطقا دراميا في روايته، قائم على تعدد المنظورات، حيث إن الحدث المركزي في الرواية، يدور حول كاتب مسرحي ناشئ تقدم له مسرحية، تدور حول أحداث حقيقية عاصرتها تلك الفرقة المزمع تقديم النص من قبلها، لكن تلك التجربة الحياتية قد احتوت أحداثا جسام، منها سجن بعضهم، ومقتل أو وفاة بعضهم، وخيانات بعضهم، ومن ثم تكون الأحداث ساخنة، يصل بها من السخونة إلى درجة الغليان أن من يحكيها لنا في الرواية أربعة أشخاص؛ هم أحد ممثلي الفرقة، وهو عدو لدود لمؤلف المسرحية، وأبو المؤلف يعيد حكايتها، وأم المؤلف تفعل، ثم يفعل المؤلف نفسه.
تعدد المنظورات هذا في الرواية تراه معاً، وهي إحدى سمات مدرسة فنية تعرف بالتكعيبة، ويحدث فيها تكتيل هندسي للمنظورات؛ ترى رجلا ينظر يميناً في جزء من الصورة، لكنه يواجهك مع ذلك، ويعطيك قفاه وفي وقت واحد. ومرد ذلك أن الحقيقة نسبية، ولا يملكها طرف واحد، ولا تُرى كاملة من زاوية واحدة. كيف سيتعامل المسلسل مع تكنيك مثل تعدد المنظورات هذا؟!
يتعامل بجسارة، إنه يفُعِّل تعدد المنظورات على مستوى بنية المشهد نفسه.. من ذلك، مشهد مثل المشاجرة بين تحية وبين طارق على باب شقتها، بعد أن علم أنها قد قررت الزواج من عباس، مرة نراها عبر وجدان تحية، فنرى فيها طارق يقول نفس الكلام تقريباً الذي سنراه عندما يعاد المشهد بوجدان طارق، لكن النبر يختلف والانفعال يختلف والإحساس يختلف، ذلك أنه ببساطة نحن لا نحتفظ بالأشياء كما حدثت، بل كما أحسسناها وأدركناها بانحيازاتنا ومشاعرنا، وليت الأمر يقف عند هذا الحد لهان، لكن -يضاف لذلك- عندما نستدعيها من الذاكرة، لا نستدعيها كما خزناها في مخزن الذاكرة، بل نستدعيها وغالباً بوعي لحظة الاسترجاع.. يعني من الفريزر إلى المياكرويف وفوراً.
ملمح آخر من ملامح التكعيبية، هو اللعب على ما يعرف بالميتا-فن، وهو ببساطة أن كان الفنان يتحدث عن كل الأوساط والطبقات والمهن والحرف والمجتمعات، لماذا عليه أن يعتبر أنه قد سقط من قعر القفة -حسب التعبير العامي الحبيب- يتحدث الفنان عن المهندسين والضباط والأطباء، فماذا عن العوالم الفنية نفسها رفاق الكار، نجيب محفوظ تنبني روايته على الضوء الذي يلقيه على عالم الفن، ولكن لا يشترط لهذا الضوء أن ينعكس بصوره حرفية، وهذا ما يلتقطه صناع المسلسل، إنهم يخلقون عالما مسرحيا -ببيئة بصرية على وجه التحديد- لا يشترط أن تطابق ما يحدث في الواقع.
يحاول المسلسل محاكاة ما فعله محفوظ أكثر منه محاكاة نص محفوظ، فهو يحاكي بيئة فنية وحالات مزاجية شرارتها في النص، منها البيئة الدرامية للجو المسرحي، قد تتشكل تلك الحالة في وجداننا، أكثر مما تلمحها عيوننا.
الآن.. أسحب هذا الكلام على ما تراه وستراه من المسلسل، ليكن إعجابك إعجابا بحق، للإبداع المستحق.