اعتدنا كل عام أن ننتظر الإعلانات في رمضان كما ننتظر الدراما، فهي بالفعل فن جذاب، وصانعو الإعلانات في مصر مبتكرون ويعرفون كيفية مخاطبة السوق الذي يتوجهون إليه، مستخدمين تيماته ومفرداته، ونحن أيضاً معتادون على ما عُرِفَ في الشهر الفضيل بإعلانات الشحاتة، والتي تُمعن في وجع قلوبنا بتصدير مشهد المرض والجوع والبؤس الذي نعلمه جيداً، ولا نحتاج إلى تجسيده، في تكرار ممل أمامنا طوال رمضان لابتزاز عواطف الناس وتجميع التبرعات، والتي تأتي ببساطة من خلال إعلانات تتكلف ملايين.
وبغض النظر عن هذه الملايين، فأنا لم أتوكل على الله لكتابة هذا المقال لرفع أي شعارات إشتراكية، وإنما لألقي نظرة على الإعلانات التي أثارت الرأي العام، وأشعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتنكيت والتبكيت.
ربما كانت إعلانات \”حلق الست زينب\” و\”الدندو\” و\”العيلة الكبيرة\”، هي الأكثر إثارةً للجدل منذ أن بدأ سباق التسويق والإعلان في رمضان.
بدأ الأمر بنشر أرقام فلكية لأجور تقضاها الفنانون المشاركين في إعلان فودافون \”العيلة الكبيرة\”، وتعليقات بعدد الغارمات في مصر والقيمة المالية البسيطة اللاتي يحتجنها النساء المسجونات ليخرجن لعائلاتهن، مقارنة بالثروة الطائلة التي دُفعت لإنتاج هذا الإعلان الذي لا تتجاوز مدته الدقيقة وأربعين ثانية، وفي الحقيقة مثل تلك الملاحظات غير دقيقة وتبدو من وجهة نظري مزايدة فجة ومردود عليها، فالشركات الكبيرة -مثل فودافون وغيرها- لديها بند من بنود التسويق السنوي اسمه \”المسئولية الاجتماعية\” أو مثلما يشتهر \” CSR\”، والذي تشارك من خلاله بتبرعات أو مشاريع تخدم المجتمع الذي تنتمي إليه، وهذا لا علاقة له بالبند المخصص لدعاية والإعلانات، والذي غالباً ما تُلقي الشركات بثقلها في هذا المجال خلال رمضان، باعتباره الشهر الأعلى مشاهدة للقنوات التلفزيونية خلال العام. كما أننا وببساطة لو تجاوبنا مع مثل هذا الطرح، علينا أن نمنع الفن وممارسته وإنتاجه بالقانون، ونُسرح العاملين في هذا القطاع بأكمله للخدمة في المقاهي، أو نرسلهم في آلة الزمن للقرن التاسع عشر للخدمة في جيش محمد علي ضد الأستانة أو الانخراط مع المهاجرين للعمل في مناجم الفحم والذهب في كاليفورنيا.
نأتي إلى إعلان (حلق الست زينب) الشهير، والذي تحول في أيام قليلة إلى \”تريند\” على مواقع التواصل الاجتماعي، وكيف أثار فتنة بين أشقاء الوطن الواحد، حيث أحرج المواطنين الشرفاء الذين لم يُخرجوا ذهبهم من تحت البلاطة لتسليمه لصندوق \”تحيا مصر\” حتى الان، خاصة وأنهم ارتاحوا إلى فكرة التصبيح على مصر بجنيه. فياله من ثمن بخس ذلك الذي يثبتون به وطنيتهم كل يوم، و\”أهو بدل ما يدوا السايس في الجراج 3 جنيه، يدوله اتنين، ويصبحوا على مصر بالجنيه اللي فاضل\”، وكله فداء للوطن وتحيا مصر 3 مرات قبل الإفطار والغداء والعشاء، ودمتم ويجعله عامر.
الست زينب أثارت حقد ونقمة الذين أصبحوا لا يمتلكون الحديدة، حيث بصقوا على وجهها لأنها استطاعت طوال هذا العمر الذي عاشته أن تحافظ على حلق دهب مخرطة، وهذا يعني أنها عاشت مرفهة جداً قياساً إلى الشعب العريض الطويل الذي باع الجلد والسقط ولم يبق شيء ليرثه أحد من أبيه أو أمه، وليس جدته وجده. آخرون فتشوا في تاريخ الست زينب، فاكتشفوا أنها تنتمي إلى أسرة عريقة تعمل ككومبارس للرؤوساء المصريين، ونشروا صوراً لزوجها مع حسني مبارك (المعلومة غير مؤكدة حتى الآن)، بينما عايرها أحدهم بأن ابنها ترك مصر منذ زمن بعيد ليعمل في الخارج، ولم يستقر لخدمة وطنه الذي باعت من أجله الحلق. شريحة من الشعب شككت أن يكون الحلق ذهباً حقيقياً، مؤكدين أنه ذهب صيني، والست زينب نصبت على سيادة الرئيس المفدى عبد الفتاح السيسي، بينما أعلن آخرون أن حلق الست زينب تُقدر قيمته بخمسة آلاف جنيه، نالت مقابلها عمرة على حساب الدولة ومكافأة تجاوزت قيمة حلقها، بينما أُنتج إعلان عنها بقيمة مليون جنيه، وبالطبع هذا تقدير مادي مبالغ فيه جداً لإنتاج الإعلان (كلها معلومات غير مؤكدة).
في الحقيقة إعلان الشحاتة الخاص بـ تحيا مصر عن حلق الست زينب، خرج مستفزاً جداً، في وقت يعاني فيه الناس من ضيق العيش، ويرتعبون من الغد الذي يظهر جلياً بلا أفق اقتصادي مبشر بأي خير، بينما يهوي الجنيه إلى قاع القاع كل يوم.
وبغض النظر إن كانت الست زينب \”بروباجندا هتلرية\”، أم حقيقة، فالإعلان خرج مستفزاً حتى للموالاة، نستثني منهم طبعاً بعض الأبواق المستفيدة بشكل مباشر، والذين تحدثوا عن أننا -\”المنتقدون\”- أشرار ونهدف إلى تفكيك الرمز وضربه في مقتل لهدم المجتمع وقيمه الثابتة…. إلخ من تلك السطور المحفوظة منذ قرون مضت.
والآن.. نصل إلى \”الدندو\”، الذي بدا لغزا لبعض البسطاء، فتساءلوا عن ماهية \”الدندو\”، بينما فطن الحاذقون من أول لحظة إلى أنه لبن الرضاعة الطبيعية بالطبع، وبقدرة قادر تحول من لبن الأم إلى الثدي، فخرجت جحافل الفيمنيزم لتنتقد الإعلان، معلنةً أنه إهانة للمرأة ويدعو إلى التحرش باستخدام أطفال أبرياء، وأقسم آخرون أنهم شهدوا حالات تحرش بنساء في الشارع مستخدمة لفظ الدندو \”ياله من مجتمع سريع الاستجابة\”!
وعلى الجانب الآخر رأى البعض أن منتقدي الإعلان مبالغون في حساسيتهم، وأنهم إسلاميون أكثر من الإخوان في الشعور بأن أعضاء جسد المرأة عورة و\”تابو\” كبير يجب عدم المساس به أو استخدامه في أي منتج إعلاني أو فني، وأننا يجب أن نتستر على أعضاء المرأة باعتبارها عيب وحرام.
بصراحة شديدة، وبغض النظر عن جودة المُنتج المُعلن عنه، فالإعلان مضحك بالفعل، وأنا بشكل شخصي لا أدري كيف تحول \”الدندو\” الذي هو اسم ساخر للبن الأم الطبيعي، إلى الثدي نفسه، فهل لبن البقرة يعني ضرعها؟ أم اللبن نفسه الذي يخرج من الضرع؟ كما أنني ضد الحساسية الشديدة في التعامل مع كل شئ يخص النساء، مثل الدورة الشهرية مثلاً، التي يعلم جميع أهل الأرض أنها دورة تبويض طبيعية للنساء، ومع ذلك تنكرها المرأة قبل الرجل، ويتحرج الجميع من ذكرها بصراحة شديدة، بل كثيراً ما تُستخدم ضد المرأة نفسها للتدليل على عدم قدرتها على العمل أو التمثيل السياسي والاجتماعي.
أعتقد أننا يجب أن نكون أكثر أريحية في هذا الشأن، خاصة وأن إعلان الملابس الداخلية \”دايس\” و\”كوتونيل\” يعبران بمنتهى الوضوح عن عضو الرجل الذكري وراحته داخل المنتج، بل وصل لدرجة أن إعلانات المُنتَجين تتنابز بالألقاب صراحة على الشاشة وبصورة فجة، بينما يضحك المجتمع، ولا يرى في الأمر شبهة عيب أو تحرش بعضو الرجل.
إعلانات كثيرة أخرى تحتاج إلى تحليلها، مثل إعلان \”اتصالات\” الذي لا يمكن الإشارة إليه سوى بأنه ممل للغاية، لدرجة أنني أشعر بالنوم بمجرد بدايته، هذا إضافة إلى الشباب والفتيات \”البيض والشقر\” الذين من المفترض أنهم يمثلون شعباً أفريقيا، حتى وإن كان في شمال أفريقيا، فهو أسود وأسمر وقمحي البشرة بنسبة تزيد عن 80%، وبرغم أن كُلفة الإعلان الإنتاجية أقل بكثير جداً عن إعلان فودافون، إلا أنه بالفعل مستفز، حيث يعبر عن حياة لا يعيشها أو يعرف عنها شيئاً 90% من التعداد السكاني، ولا يصلح إلا للتعبير عن سكان فلل القاهرة الجديدة ومن على شاكلتهم.
بقي أن أشير إلى أن شركات كثيرة اعتاد منها الجمهور إعلانات مميزة ومختلفة في رمضان، انسحبت من السوق أو رشدت إنفاقها بإعلانات عادية وغير مكلفة، مثل \”أورانج\” التي كانت يوماً \”موبينيل\” والتي اكتفت بإعلان متواضع لباقات رمضان التي تطرحها في السوق، وإعلان مترجم عن الفرنسية لزين الدين زيدان، ليبقى إعلان \”فودافون\” -في رأيي- هو الأعلى فنياً، ويُطرح سؤالا مهما عن حجم سوق الإعلان في مصر، وحجم القوة الشرائية في السوق المحلي، والذي يبقى بدون إجابة واضحة، حيث إعلانات العقارات تصل إلى ذروتها هذا العام باستخدام فنانين ومشاهير أيضاً، وكلها تخاطب شريحة الـ Multi-Millionaires بينما يكتفي الشعب بالمشاهدة، والحُلم بالحصول على شقة في الإسكان الاجتماعي بدون واسطة أو رشوة.
كل ما سبق، والدولار صعد إلى 12 جنيه، ولم يجد من يفرمله حتى الآن!