تحاول وزارة التربية والتعليم ومن ورائها وزارة الداخلية مطاردة الأشباح، يطاردون من سرّب الإمتحان، يحاولون معرفة آلية تسريبه، التوقيت، المكان، قيمة الرشوة ربما.. بينما يجلس ذلك الشقي وراء شاشة حاسب آلي في مكان ما، ربما في برلين أو الولايات المتحدة أو أستراليا، يبث أفكاره الجهنمية التي يتلقفها المجتمع التعليمي المصري بكل شغف وتعطش!
عشرات الآلاف من الطلبة والأهالي يجلسون على الجانب الآخر من الشبكة العنكبوتية (المدهشة في إنجازاتها وفائدتها العلمية للعالم أجمع) ينتظرون السبق الجديد لذلك الـ”شاومنج”، بينما يستغفل الوزارة ويسرّب امتحاناً جديداً تلو الآخر.. دون أن ينتبه أحد إلى أن المشكلة ليست في شاومنج.
رامز يلعب بالنار بعدما لعب بالماء والهواء والحيوانات المفترسة، تنهمر الرسائل الغاضبة، ويمتعض الجميع ممن تطالهم ألعابه السمجة السخيفة، بل ويسبّونه ويضربونه على الهواء ويرفعون القضايا ضده، دون أن ينتبه أحد إلى أن المشكلة ليست في رامز، تماماً كما أنها ليست في شاومنج، ولا في السبكي، ولا في بطلة ڤيديو “سيب إيدي”.
المشكلة الحقيقية في العولمة في غياب المضمون.
نعم، إنها الجملة التي كان محمد هنيدي في التسعينيات يقولها استهزاءً وتعبيراً عن الفزلكة والتحذلق والفلسفة الفارغة.. تخيل أنها لم تكن فلسفة فارغة؟!
نعم.. كان زكي نجيب محمود -رحمه الله- على حق وهو يناقش قضية العولمة في غياب المضمون.
لقد دخلنا العولمة دون أن يكون لدينا مضموناً نقدمه للعالم، لقد فتحنا النافذة دون أن نعتني بترتيب مكونات المنزل من الداخل، فذهبت الرياح بنصف الممتلكات، وها هي تعصف بما تبقى لدينا.. فتحنا النافذة دون أن نعتني بجوهر ما يمكن أن نقدمه للعالم، حتى يحدث التوازن بين ما نقدم، وما نحصل عليه، أو يحدث تناغم بين الخارج والداخل.
لقد دخلنا عالم الشبكة العنكبوتية بكل ما يتميز به من حرية وشفافية ودقة في البيانات، دون أن يكون لدينا نحن نفس الحرية والشفافية والدقة في البيانات، دخلنا عالم القرن الواحد والعشرين، ونحن لازلنا نعيش بعقلية مطلع القرن العشرين، حتى إذا ما صدمتنا الحقيقة والشفافية والحرية، لجأنا إلى أساطيرنا وهرطقتنا، ظناً منا أننا بذلك ندفع بالشبح بعيداً، بل ودشننا أجهزة وإدارات، ودفعنا أموالاً طائلة لمطادرة الأشباح، دون أن ندرك أنها أشباح بلا لون، أو كتلة، أو خط، أو نسيج يمكن أن نمسك بها من خلالهم.. الشبح في واقع الأمر فكرة، تماماً كما أن الثورة فكرة، والحرية فكرة، حتى شاومينج ورامز جلال والسبكي أفكار، اكتسبت زخمها وانتشارها من الجماهير العريضة التي رأت أنها تحتاج لهذا المنتج في هذه اللحظة بالذات، ولا تحتاج سواه.
نعم.. علينا أن نعترف بأن الجمهور المصري المتدين بطبعه، يحتاج إلى الجنس الاستهلاكي السلعي المجرد والتافه والمتهتك.. هذه حقيقة يقرها شباك التذاكر لأي فيلم إغراء من إنتاج السبكي، السبكي يدرك تماماً ما يحتاجه الشعب المصري، ويوفره له، والشعب المصري بدوره لا يخذل صاحب السلعة، ويشتريها منه دائماً.. هذه حقيقة تقرها إحصائيات جوجل لكلمة جنس، أو إحصائيات المشاهدة على يوتيوب لڤيديو “سيب إيدي”.
نعم.. الجمهور المصري يحتاج إلى العنف والقسوة والسماجة والسخافة التي تمتلأ بها برامج رامز جلال، الجمهور المصري يحب التجسس، ويحب التلصص، وإلا فبماذا تفسر بالله عليك استمرار برنامج رامز، وحصوله على أعلى نسبة مشاهدة؟!
نعم.. الجمهور المصري من طلبة وأهالي يحتاجون إلى الغش، والكسب السريع، والحصول على ما ليس من حقهم أو من حق أبنائهم، يحتاجون إلى ذلك احتيالاً على الدولة وعلى الحكومة التي تحتال عليهم بدورها في الضرائب التي لا تصل حيث يجب.. فلا تعليم لائق، ولا صحة لائقة، ولا بنية تحتية لائقة.. الجمهور المصري يشاهد إعلاماً مضللاً، يحاول أن يقنعه بأن في العلبة فيلا، وهو يعلم تمام العلم أن الفيل أكبر من أن يكون بداخل العلبة.. الجمهور المصري يعرف تماماً أن أسعار السلع لن تهبط، وأن سعر صرف الدولار لن يهبط، وأن سعر البنزين سوف يرتفع، ومعه سوف ترتفع جميع السلع.. لذلك، فالجمهور المصري يحس بأن ما يفعله من غش ونصب واحتيال وشبق لمن يعينه على ذلك، إنما هو عمل مبرر من أعمال الانتقام العادل لظروف غير عادلة، وهو في انتقامه لا ينتقم من شخص، وإنما من كائن هلامي يتعامل معه بنفس ذات الهلامية.. فالحكومة هي الأخرى تتحدث عن الشعب المصري بوصفه كائناً هلامياً، تبني له بضعة وحدات سكنية، وتتحدث عن آلاف الكيلومترات من الطرق وآلاف المدارس والمستشفيات والتنمية في مجال البنية التحتية، دون أن يكون لذلك أثر مادي يراه الشعب ماثلاً أمام عينيه، أو يصدق بمنطقية الخطاب الموجه له كشعب واع صنع ثورتين في السنوات الخمس الأخيرة.
تعلّم الجمهور المصري منذ “إنفتاح السداح مداح”، أن البوتيك أسرع وأفضل من المكتبة، وأن البنطلون الچينز وقلم الروچ و”لاكتيويل آي لايك إت” أفضل من العمل والإنتاج والكفاح من أجل الوطن.. لقد مات الوطن في كامب ديڤيد، حينما خذلت السياسة السلاح، وأثبت لنا الرئيس المؤمن محمد أنور السادات أن كل ما بذلناه من تضحيات، وكل ما بذلناه من دماء في حرب الاستنزاف وما تجرعناه في نكسة يونيو لا قيمة له أمام ابتسامة چيمي كارتر ذو الأسنان البيضاء.. فقدت الأشياء معناها، وفقد المواطن المصري آنذاك معنى وجوده في محيطه الإقليمي.
لقد هُزم الرجل المصري اقتصادياً، ثم رحل إلى دول الخليج باحثاً عن لقمة العيش، عمل في جميع الأعمال التي يمكن أن تدر عليه رزقاً بصرف النظر عن تعيينه، وعن تخصصه، وعاد هاهو اليوم ليحاول سرقة ما تبقى من أشلاء الدولة لأبنائه.. أي تعليم مجاني، أو نصف مجاني.. أي سبوبة أو مصلحة لأبنائه الذين تربّوا بدورهم على اعتبار أن الوطن مرحلة مؤقتة في رحلة الحياة.
الجمهور المصري يفعل تماماً ما نفعله جميعاً على الطرق السريعة حينما ننبه القادمين من الاتجاه المعاكس بوجود الرادار.. إننا نتكاتف كمواطنين ضد وزارة الداخلية.. لماذا؟ لأن وزارة الداخلية تحتقرنا، وتتعامل معنا بفوقية شديدة كمواطنين من الدرجة الثانية والثالثة والرابعة.. وها نحن مواطنو الدرجة الثانية والثالثة والرابعة نرد الصاع صاعين، وتساعدنا في ذلك التكنولوچيا، وذلك الشبح “شاومينج” الذي ربما يكون ابنك أو ابني أو ابن جيرانك، في الضحك على تلك الحكومة التي تضحك علينا في تمثيلية سمجة تسمى التعليم المصري.
ثم ينتهي الأمر بالمتحدث الرسمي لوزارة التربية والتعليم معلناً في خبر منشور على موقع \”الوطن\” بأن مصر تخوض حرباً ضد مافيا عالمية تتآمر على الدولة المصرية ونظامها التعليمي العريق!
صمت
….
أبلغ تعليق، هو تعليق وزير الخارجية:
End of text