محمود الغول يكتب: ولا تقربوا العقل!

يصر أبي على أن جمال عبد الناصر هو الزعيم الأوحد، وأن مصر لم تنجب وطنيًا غيره، ولا يقبل تحميل الرجل الراحل مسؤولية الهزيمة في \”سبعة وستين\”.. هكذا رباني والدي وحشر في عقلي هذه \”الحقيقة\” المقدسة التي لا تقبل النقاش أو التشكيك.

سألت أبي: من أين جاء بهذا اليقين؟ غير أنه لم يجب سؤالي أبدًا.

– يعني أنت يابا، عندك معلومات عن فترة عبد الناصر وكل اللي حصل فيها؟

– وهو أنت بس اللي ناصح والناس دي كلها أغبيا!

– لأ يا حاج ماقلتش كده، أنا بس مش عايز أسمع الكلام وأردده من غير ما افهم.

– الكلام ده لو حد غريب اللي بيقوله.. إنما أنا أبوك.. أكيد يعني مش هغشك.

– أكيد يابا مش هتضحك علي،  بس ده مش كلامك، أنت بس بتنقله.

– قصدك إن أنا بغبغان يا حمار؟

– العفو يابا ينقطع لساني لو أقصد كده.. أنا قصدي إنك راجل غلبان لا ليك في السياسة ولا في اللوع بتاعها.. وأنا مش أحسن منك.. صحيح أنا متعلم، بس كتب التاريخ دي كلها عجايب.. فيه ناس تمجد في ناصر وتعمله إلها.. وناس تانية تصوره شيطانا.

– طب والحل؟

– ابدا أنا نفسي ألاقي حد يدلني على الصح.. ومن ناحية تانية نفسي ماشغلش بالي باللي فات.

– يا بني اللي مالوش أصل مايسواش.

– لأ مش قصدي.. أنا بقول إننا كل شوية نتكلم عن إن الفراعنة عملوا وسووا، وإن المصريين زمان عملوا كذا وكيت، نفسي مرة نقول إحنا عملنا كذا، مش اللي سبقونا عملوا إيه.

ليس هذا فقط ما تربيت عليه، فمنذ أن وعيت على الدنيا، والناس تقول إن أنور السادات خائن، ولفترة كبيرة من حياتي كنت ممتلئا بيقين راسخ أنه بالفعل رجل خائن باع مصر لليهود، لكني في وقت من الأوقات فكرت في أن هذا الرجل الخائن هو صاحب قرار حرب أكتوبر، ولو كان خائنا فلماذا حاربهم واسترد سيناء؟

حقيقة لم أجد إجابة، فحتى الآن حين يذكر اسم السادات، يستدعي عقلي كلمة \”خائن\”!

لماذا تتزاحم مثل هذه الأفكار في رأسي وتتدافع الآن؟

ليست لدي إجابة، لكن ما أعرفه أن كثيرا من مثل هذه الأفكار تم حشو رؤوسنا به كما تحشى أوراق الكرنب بخلطة الأرز.

فمثلا، اتذكر أن لدي إيمانا عميقا – لا أعرف مصدره – يقول إن الطفل المصري هو أذكى طفل في العالم حتى يبلغ السادسة من عمره، فيتراجع معدل ذكائه إلى أن يصير \”أهبلا\” في سن العشرين.. سبحان الله يبدو أن الطفل المصري صالح للاستخدام الآدمي حتى ست سنوات، وبعدها يصبح متعايشا، ويجب استبداله بواحد صيني.

يومًا قال لي جاري عم كارم:

– عارف يا محمود إحنا قدامنا تلات أربع سنين ونبقى دولة عظمى.

– يا راجل!!

– أي والله

– ليه يعني؟

– أنا قريت في الجرنال الكلام ده.. بيقولك إن مصر بعد كام سنة كده، هيبقى بقالها تلاتين سنة من غير ما تدخل حرب، والدول اللي بتقعد المدة دي بتبقى عظمى.

– عظمى ولا صغرى يا عم كارم.. هي درجة حرارة؟!

– بتتمألس عليا يا أبو حنفي؟

– لا والله يا عم كارم.. بس أنا أعرف إن دولة عظمى دي يعني اقتصادها قوي وتقدر تحمي نفسها وشعبها بيبقى مبسوط.

– طيب وهو فيه شعب مبسوط أكتر مننا؟ ده إحنا طول النهار بنضحك.

– مش القصد، مبسوط يعني عيشته مرتاحة.. مفيش بطالة، والناس بتقبض كويس وبتاكل كويس وبتتعالج وتتعلم برضه كويس.

– يا أخي سيبك من كلام الشيوعيين ده.. الغنى غنى النفس.

– شيوعيين مين يا عم كارم؟

– أومال أنت إيه.. وطني ولا إخوان؟

– لا ده ولا ده.

– تبقى شيوعي.

– يا راجل صلي بينا على النبي.

لا أعرف من أين اتى عم كارم بكلمة شيوعي هذه، فهو رجل بسيط للغاية ولا يعرف شيئا في السياسة رغم أنه كان عضوًا بجماعة الإخوان المسلمين.. طبعا هو ليس من القيادات، بل مجرد عضو في قاعدة قروية، لم يكن يعرف حتى عنوان مكتب الإرشاد، ورغم أنه عضو بالجماعة، إلا أنه يقضي ليله نهاره في صحبة الحاج عرفة الريس، وهذا الأخير كان أمين الحزب الوطني بالقرية.

قد تقول وإيش لم الشامي على المغربي، فاقولك إن الناس في بلدنا غلابة وانتمائاتهم السياسية هذه إما من باب الوجاهة أو بحثا عن مصلحة.

فمثلا، عم كارم كان ينتمي للإخوان لأنهم كانوا يمنحونه كرتونة مملوءة بالسكر والزيت والمكرونة والصابون كل شهر، بينما الحاج عرفة، فهو رجل مقتدر ولديه محاجر رمل وظلط بالجبل المحيط بقريتنا، وهو بانتمائه للحزب الوطني كان يحمي مصالحه ويحافظ على ماله، كما أنه يتقي بذلك شر رجال المركز، فضباط الشرطة يعرفون أنه تاجر آثار كبير، غير أن أحدهم لا يستطيع الاقتراب منه لموقعه الحزبي، فضلا عن أنه كاسر أعينهم براتب شهري يدفعه لمأمور المركز ومن معه!

وقد تفسر علاقة عم كارم والحاج عرفة هذه معضلة العلاقة بين الإخوان والحزب الوطني، فمنذ وعيت على الدنيا وهم يقولون لنا إن الإخوان تعارض الوطني، وإن الحزب يكره الجماعة، ورغم أن الحكومة حظرت الإخوان وقضت بحل التنظيم، فمن الغريب أن الدولة لم تلق القبض على أي من مرشدي الإخوان ولم تغلق مكتب الإرشاد الذي يعرف أصغر عيل في مصر أنه في المنيل.

ومع ذلك كنا جميعا نؤمن أن الحزب الوطني ضد جماعة الإخوان وأن بينهما ما صنع الحداد، رغم أننا كنا نرى بأعيننا أنهم كما السمن على العسل، وكنا شهودا على زيجة عرفية، يدعي فيها كل طرف أنه يطيق العمى ولا يطيق الطرف الآخر!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top