أحمد عيد يكتب: تعالوا نتكلم في التفاصيل

إذن، فالمطلوب هو ألا نسأل عن أشياء إن تبد لنا تسؤكم، وتجاوز الأمر إخفاء المشاريع الكارثية عن أعين أهل الشر، إلى إخفاء الإخفاقات الكارثية أيضاً عن أعين العالمين، لذلك وجب عدم ذكر التفاصيل -على الأخص- أمام الكاميرات.

النهر يجف فلا ماء ولا كهرباء، والأرض تبور.. تفاصيل.

السائحون لا يجيئون، ولن يجيئوا.. تفاصيل.

المصانع تغلق، والعمال يسرَّحون.. تفاصيل.

الطائرات تتساقط كالفراشات.. تفاصيل.

الأرض تباع.. تفاصيل، البلد تحترق.. تفاصيل، الأسعار، التضخم، الدولار، الإرهاب، الشرطة، القضاء، المختفون، المسجونون، المعذبون.. تفاصيل التفاصيل، ونحن شعب لا يجب أن يعرف التفاصيل.

إليكم المفاجأة، الجميع يعلم كل ما تحاولون إخفائه، الفلاحون الذين تبور حقولهم، والعمال الذين يفقدون وظائفهم، والموظفون الذين تتآكل رواتبهم، كل أولئك أيقنوا أنكم فشلة، والغبي فقط هو من يعتقد أنه يستطيع أن يخدع كل الناس كل الوقت، تتآكل الدوائر من حولكم، ويكفر بكم الأرباب، أرباب المعاشات الذين عاشوا عبيداً، وأرادوا أن يموتوا كذلك بلا حرية بلا وجع رأس، بدأوا يدركون أنهم لن يموتوا عبيداً فحسب، بل سيموتون أيضاً جائعين، وأرباب الأموال الذين ظنوا أنهم سيسرقون معكم من البقرة حليباً أكثر، اكتشفوا أنكم قررتم أن تذبحوا البقرة وتقتسموا اللحم فيما بينكم، لم يبق حولكم سوى أرباب السوابق، وهؤلاء جبناء سيفرون في ساعة الحسم أمام الجموع.

روسيا القيصرية أسقطها غباء الإمبراطور نيقولا الثاني والبطون الجائعة، كان حضور لينين استكمالا للشكل فحسب، كالطبيب الذي يؤتى به ليوقع على شهادة الوفاة، وعندما هبطت طائرة الخميني في مطار طهران الدولي، كانت طائرة الشاه قد أقلعت بالفعل أيضاً بسبب غبائه وبطون شعبه الجائعة، الأمثلة كثيرة، ولكن الحكام الأغبياء فقط هم الذين لا يقرأون التاريخ، لذلك ينتهي بهم الأمر في مزبلته، ذلك مع الاعتذار للقيصر والشاه وكل من كان في وضعهما، لأن المقارنة هنا قد تكون ظالمة، فهؤلاء استمدوا شرعيتهم من خلال أسرهم العريقة التي حكمت عبر قرون.

ما نشهده منذ ما يزيد عن الخمسين عاماً هو حكم \”الجونتا\” بامتياز، ذلك النموذج الذي دائما ما يفشل، كما حدث في البرازيل واليونان والأرجنتين وغيرها، وما شهدناه خلال الخمس سنوات الأخيرة ما هو إلا بداية النهاية لحكم تلك \”الجونتا\” الفاشلة، لأن القمع مهما بلغ، فلن يصمد طويلاً أمام البطون الجائعة، والأذرع الإعلامية في النهاية لن تستطيع أن تحجب ضوء الشمس عن الأعين في وضح النهار.

عزيزي القارئ، كانت تلك هي رسالة \”أونج سان سو تشي\” من محبسها إلى \”الجونتا\” الحاكمة في بلادها ميانمار، قبل أن يتم الإفراج عنها، ويكتسح حزبها الإنتخابات البرلمانية في العام الماضي منهياً بذلك خمسين عاماً من حكم العسكر.

الجدير بالذكر أن عدد حكومات \”الجونتا\” في عالمنا اليوم، لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، وذلك بدون الدخول في التفاصيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top