هرطقات صباحية حول فكرة الزعيم:
إن الشرق في حركته الدائبة في البحث عن البطل/الزعيم/المخلص/الملهم/الكاريزماتي/الديكتاتور -إذا شئت- إنما يستكمل مسيرة طويلة من الحضارة الذكورية الأبوية التي تعتمد بالأساس على احترام الكبير وتقديسه، وتأليهه أحياناً، كما تعتمد على امتلاك الحقيقة المطلقة/الحق المبين/الرسالة/الدين الحق/الطريق المستقيم، وهي مرادفات تعبّر عن وجود طريق واحد أوحد وحيد، يضل من يحيد عنه، وهناك حقيقة واحدة (نمتلكها نحن بكل تأكيد) هي التي تجعلنا خير أمة أخرجت للناس، شعب الله المختار، الفئة الوحيدة الفارة من العذاب والنار في يوم الفصل، بينما تجعل الآخرين كفرة ومشركين وأعداء وخارجين عن إطار البشر بما يعطي لنا (أصحاب الحقيقة) الحق في نزع القداسة السماوية (التي منحت لنا دوناً عن سائر العالم، في مكان ما في التاريخ بلا سبب محدد).. وتتساوى في ذلك جميع الديانات التي نشأت في تلك البقعة من الأرض، سرة العالم.. مصر والشام والجزيرة العربية، موطن الديانات الإبراهيمية التي كرست تلك الذكورية من خلال أساطير تتقاطع وتتوازى وتتشابك مع موروثات شعبية تاريخية تعود إلى حضارات مختلفة، وبصرف النظر عن الحقيقة التي أصبحت في يومنا هذا مستحيلة على الإثبات، فإن القصص جميعاً، والكتب بما في ذلك التاريخية التي يعجز الخبراء عن الجزم بصدقها، نظراً لأن التاريخ يكتبه دائماً المنتصر، كما تكتبه النخب والسلطة بينما يغوص العامة والجنود في بحار من الدماء والقتل من أجل الفكرة الأسمى “الرسالة”، أقول أن القصص والكتب تؤكد على بضعة حقائق لا غنى عنها في فهم طبيعة الشرق الأوسط، والتحلل والانهيار الذي يمر به الآن، سواء على المستوى الشخصي/الإنساني، أو على المستوى الإقليمي/السياسي، أو على المستوى الحضاري/الثقافي، أو على المستوى الإنساني العام.
أولى هذه الحقائق أن تلك الحضارات الشرق أوسطية إنما نشأت في بيئة جغرافية متنوعة، لكنها جاذبة في نهاية المطاف، فصراع الإنسان من أجل البقاء في الصحراء وحول الأنهار وفي الوديان لا يحتمل اندثاره مثل الحضارات التي نشأت في أقاصي الشمال حيث طردت البيئة الإنسان حتى تمكن من تطويعها وإنشاء مجتمعات قادرة على العيش في ظروف قاسية، أي أن أصل الحضارات الشرق أوسطية فرضته الجغرافيا، وظروف الزراعة، والزراعة مدرسة واسعة يتعلم فيها الإنسان الصبر، وفهم الطبيعة، والخضوع لقوانينها، والخوف من المغامرة، والبحث عن صورة مجسدة للإله، بما يتبعه ذلك من قرابين وطقوس وتعاويذ، هكذا كانت الديانات التي توجت بفكرة التوحيد المصرية، حينما فكّر الإنسان في أوجه التشابه بين جميع الآلهة، وانتهى إلى توحيدها في إله واحد.
ذلك التوحيد هو جوهر الديانات الإبراهيمية الثلاث، التي تبدو وكأنها فكرة واحدة/جوهر واحد له تجليات ثلاث، لكن الحقيقة أن هذا الجوهر ليس له تجليات ثلاثة فحسب، وإنما له ملايين التجليات، في أجزاء مختلفة من العالم، تتجسد وفقاً لظروف الإنسان والبيئة وقوانين الجغرافيا وسنن التاريخ، لكن الحضارة في منطقة الشرق الأوسط كانت متحققة ومركزية فصدّرت تلك الأفكار إلى العالم، ليدور العالم في فلك تلك الأفكار حتى يومنا هذا. لكن الفكرة ذاتها، فكرة التوحيد وإن انطوت عن حاجة الإنسان إلى إيجاد مركز ثقل لإيمانه بالوجود، وتركيز طاقته الروحانية في اتجاه محدد، إلا أنها عادت فتجزأت بين القبائل في فهم واستيعاب الجوهر، تماماً كما أصبحت الديانات الإبراهيمية ذات الجوهر الواحد تنقسم في داخلها إلى طوائف وشيع وفصائل وطرق لا حصر لها ولا عد، لتعود الفكرة الواحدة فتتجزأ بين الأقاليم، وتتوزع على الجغرافيا بين الأرثوذكس والمحافظين والإصلاحيين والكاثوليك البروتستانت والشيعة والسنة مع وجود تقسيمات لا نهائية داخل كل الطوائف.. كل يرى “الرب”/فكرة التوحيد من وجهة نظره، بينما يتفقون جميعاً على تكفير بعضهم البعض، كما يتفقون على تكفير الآخر “غير الإبراهيمي”.
هناك ربط واضح بين فكرة التوحيد وظل الفكرة على الأرض، بين الدين والإمام، بين الله والسلطة كتجسيد وجوده على الأرض، يتناسب هذا الربط طردياً مع درجة الغلو في الدين، فكلما زادت الطوائف/الشعوب أرثوذكسية/أصولية أو حتى تطرفاً كلما زاد ارتباط الفكرة بالزعيم، وكلما ابتعدت عن الدين باتجاه العلوم المادية البحتة، كلما زادت نسبة المنطق، وربط السبب بالنتيجة، وتفسير الأشياء وفقاً للمنطق والواقع لا وفقاً للأسطورة.
تميل شعوبنا نحو الدين بوصفه ملاذاً آمناً يحمينا من الاختيار، والبلبلة، ومشقة البحث عن الحقيقة، كذلك يميل زعماؤنا إلى استمراء تلك الرغبة الحثيثة في الشعوب، ويؤكدون عليها، بل ويشجعونها ويعملون جاهدين على إبقاء الوضع مسيطراً عليه من خلال الإبقاء على نسبة مناسبة من الجهل، ونسبة مناسبة من القمع: قمع الصغير/الضعيف/المرأة، ونسبة مناسبة من العبودية بشتى أشكالها، فترزح ملايين البشر في منطقتنا تحت وطأة التسيير لا الاختيار، وهو ما يتسق تماماً مع البعد الغيبي للدين، حيث يستغل الحكام ذلك البعد الغيبي في طرح تفاصيل أخرى حول فكرة الإله، تساعدهم في فرض سلطتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على الشعوب، من واقع القضاء والقدر، ومن واقع طاعة العبد لسيده، وانصياع العوام للنخب.
من هنا تأتي صورة البطل المخلص كتجسد حي للإله على الأرض، بينما يشعر هو شخصياً بأنه مسير لا مخير (خاصة إذا ما كانت أصوله الدينية تمنحه تلك الطاقة الروحانية في اعتبار السلطة بالفعل ابتلاءً قاسياً من الآلهة، ومسئولية عضال عليه الاضطلاع بها، دفاعاً عن الأمة، وتجسيداً لرغبة الشعوب والآلهة معاً)، وأن نصيبه أن يضحي بنفسه من أجل الجماهير، ومن أجل الأمة، ومن أجل الوطن، ومن أجل “الرسالة/الفكرة/الرب”.. من هنا تأتي ثقته المطلقة، وإيمانه الذي لا يتزعزع بأنه “على الحق المبين”، وأنه “يحارب الضلال والكفر والأعداء”، وهو في ذلك بالفعل مسير لا مخير، فإيمانه ذلك هو السبيل الوحيد كي تتوهج كاريزمته، وبطولته، وطاقته العارمة التي تلهم من حوله، فيلهمون العوام بوجود الجميع ضمن طائفة الناجين الذين سوف يخلّصهم المخلص بحكمته ومعرفته وقبسه الإلهي. لكنها رحلة بلا رجعة، فالبطل الكاريزماتي الديكتاتور لا يتمكن من التوقف بطاقته عن الحركة في اتجاه السلطة المطلقة، متحركاً بذلك نحو تنفيذ أچندات لا يفهمها من حوله، أو تفهمها دائرة حميمة حوله فقط، وهو صادق بالكامل في رؤيته للوضع، أنه مبتلى بالسلطة، وعليه ألا ينام من أجل أن يتمكن من إنجاز ما يستطيع للشعب تزلفاً وتقرباً للآلهة، وتنفيذاً للرسالة.
على الجانب الآخر حينما يشعر الشعب بتلك الكيمياء من البطل/المخلّص/الملهم، فإنه يذوب شبقاً نحو زعيمه المفدّى، ليصبح كل مختلف عن الرأي أو الرؤية مع الزعيم ليس سوى خائن مخرب عميل جاسوس على أفضل الظروف، كافر زنديق على أسوأها يستحق عقاب الدولة في الحالة الأولى، وعقاب الآلهة في الحالة الثانية. في تلك الحالة يصبح أي نقد بناء، أو أي مناقشة منطقية مدعاة للشك والريبة في الهدف من ورائها، خوفاً من أن تكون لا قدر الله بهدف معاداة الدولة والوطن والشعب، من هنا يتحول المواطنون إلى مواطنين شرفاء، وآخرون أعداء للشعب والوطن، تماماً كما يقسم الدين البشر إلى مؤمنين وكفار.