محمود عبدالحميد يكتب: ثقل الانهيار.. وأمل المهزومين.. وحديث مكرر عن عالم ما بعد الخامس والعشرين

رحلة طويلة أخرى بالمترو، تلك العلبة المعدنية التي ربما هي ثقل القاهرة الذي يجثم على النفس في صورته الأبشع.

لا أمل هناك، فقط المزيد من الدم والصراخ. \”رعب أكبر من هذا سوف يجيء\”، مثلما يقول صلاح عبدالصبور، لا أحد سينجو. تلك الوجوه البائسة التي تحيط بك يمكنك أن تقرأ فيها مستقبلنا.

أبدا في التفكير في بشاعة المقال الذي كتبته أمس عن الأمل والأوهام الزائفة. الرصاص الذي يخترق الرؤوس وسخونته المفاجئة عندما يخترق الجلد، ملمس المعدن البارد الذي كان آخر ما شعر به الفتى الذي دهسته عربة الأمن المركزي الضخمة. الجنرالات الذين يتحدثون عن عام الشباب بينما زميل سابق لك يواجه حكم الإعدام وآخر هارب خارج البلد خوفا من السجن في قضية نسيت تفاصيلها.

محمد محمود، رابعة، سيناء، والجنود الذين تتناثر أشلاؤهم في سيناء، العريش والشيخ زويد.. إسماعيل الإسكندراني، علاء عبدالفتاح الذي لم يعد يتذكره أحد! تتصارع تلك الأفكار في ذهني كأنهم يتسابقون أيهم سينجح في إطلاق العنان للكآبة التي لا مخرج منها. أفكر أي أمل في كل تلك الصور التي تتصارع في ذهني؟! هي الهزيمة المطلقة!

حسنا.. قبل أن تسترسل في أفكارك السوداوية عزيزي القارئ، أنا لا أكتب هذا المقال للحديث عن الكآبة، فالفضاء الإلكتروني يعج بآلاف المقالات والتدوينات عن الهزيمة والأفكار العدمية، لكنني اكتب عن أفكار تراود الملايين منا يوميا، حتي هؤلاء المتفائلين تروادهم أفكار مظلمة هم الآخرون. أعرف أننا أصبحنا مثقلين بالأفكار وبتراث خمس سنوات من الدم والخيانة والانهيار الذي يبدو أنه لم ينته بعد، ولا نهاية قريبة تلوح في الأفق، خمس سنوات مرت وأصبحنا أكثر ارتباكا، لازالنا نتخبط في متاهات الحيرة والألمأف

. ربما نحن إذا في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى أن نتذكر من نحن، وماذا نريد، لعل هذا يساعدنا ولو قليلا في التغلب على الأسى الذي ينهش أرواحنا.

من نحن إذا؟! ربما في البدايات بعيدا عن كل هذا التيه، نجد الإجابات التي نريد.. نحن اولئك الذين اقشعرت أبداننا في الخامس والعشرين من يناير يوم سمعنا لأول مرة \”يسقط يسقط حسني مبارك\”، بعضنا كان في الميدان يهتف مع الجموع، بينما عينيه تدمع، البعض الآخر اكتفى بتمتمتها في سره وهو يشاهد أولى مشاهد الثورة التي يسمونها الآن \”نكسة\” على شاشات التليفزيون، والبعض الآخر لم يعلم ما يحدث في البلد إلا بعد عدة أيام، لأنه كان يقف على برج حراسة في صقيع يناير يحرس المعسكر الذي يؤدي به خدمته العسكرية – للمفارقة يتهموننا الآن أننا أعداء هذا الجيش ونريد إسقاطه – البعض كان لا يعلم حقيقة ما حدث، فكان ضدنا، لكنه سرعان ما انضم إلينا عندما اكتشف زيف ما تبث وسائل إعلامهم.

ليس لنا عمر محدد فما يجمعنا ليس العمر، لكن الفكرة، كان الكثير منا في المدارس حينها لا يعلم شيئا عن الثورة ولا السياسة أصلا، لكنهم الآن أصبحوا يؤمنون بقيمنا رغم الهزيمة الحالية، بينما كان آخرون منا  ينهون إجراءات معاشهم الساعة الثانية عشر ظهرا قبل أن يسرعوا للحاق بمسيرة أخرى في تمام الواحدة ظهرا!

رموزنا عماد عفت، علاء عبدالهادي، مينا دانيال، كل منا يملك أيقوناته الشخصية، فشهدائنا بالآلاف، كل هؤلاء الذين ماتوا فقط لأنهم قالوا \”لا\” هم أحبتنا، حتى لو لم نراهم ولم يرونا.. نحب الحسين ونكره يزيد.. نحب قصص هؤلاء الذين اختاروا العدل رغم أنهم خسروا نتيجة هذا الاختيار، نحبهم حتى لو أنهم لا يشاركون الدين واللون والسن.. نحبهم لأن جوهرنا واحد.

لسنا ملائكة، أخطأنا العديد من المرات، وكنا ساذجين للغاية في العديد من المواقف.. لكننا أبدا لم نقف في صف الظالم.. لم نصفق للمحاكمات العسكرية، ظنا منها أنها لن توجه لنا بعد الآن، لم نهلل لقتل المختلفين معنا عندما تعرضوا للقتل، بل أسمينا الأشياء بأسمائها.. المذابح اسمها مذابح، والقاتل يظل قاتلا.. نكره من يؤيد القتل والقمع.. لا نكرهه لذاته، لكن نكره تأييده وتهليله للدم والقمع.

هل هزمنا؟! لا أعرف.. الكثيرون يقولون هذا.. المئات منا هاجروا، وعشرات الآلاف آخرون يفكرون في تلك الفكرة.. الكثيرون منا الآن يؤدون الخدمة العسكرية التي ربما قسوتها ستغير تفكيرهم للأبد، آخرون يقبعون في السجون، وأكثرنا شجاعة ونبلا يقبعون في قبور باردة موحشة.. نصرخ على شبكات التواصل الاجتماعي، نحاول أن نعبر عن الخواء الذي يملأ أرواحنا. بعد كل هزيمة جديدة، أكثرنا تفاؤلا يلعن كل شيء.. نسأل عن الطريق لسفارة إحدى تلك البلاد الباردة التي تطلب مهاجرين.. نكتب عن مصر الغولة التي تأكل أبناءها الحلوين.

لكن رغم كل ذلك – أو سبب كل ذلك – الأمل الذي يبدو للمراقب من بعيد يقترب من الصفر، لا يزال حيا في نفوسنا، فقط تنتظر اللحظة المناسبة لنبث الدفء في أنفسنا مرة أخرى، نحن هؤلاء الذين لازالنا نكتب عن النصر، ثم نغرق في بحور الكآبة، لكن بادرة أمل صغيرة تنتشلنا من تلك البحور.. نحن أولئك المخلصين – أو ربما المغفلين – الذين سيرفض بعضنا عروضا للسفر في اللحظة الأخيرة، وحتى هؤلاء الذين سيقبلون، سيجلسون في ساعة متأخرة من الليل كل يوم في تلك البلاد الباردة التي لا تمت بأي صلة لمصر، يتصفحون المواقع الإخبارية بحثا عن خبر جديد عن مصر التي من المفترض أنه هجرها للأبد!

لماذا لا زالنا ننطح الحوائط السميكة، لماذا نحرث في البحر؟! لا اعرف، ربما هو فيروس تمكن من أجسادنا يسمى مصر، ذلك الفيروس القادر على إفساد حياتنا بالخارج، فنحن نهاجر، ولكننا نترك أرواحنا هنا حبيسة هذا الوطن القاسي.

نسافر لكن نفوسنا تهف إلى ذلك الوطن رغم قسوته، الوطن الذي يبدو أنه هزمنا للأبد، حتى لو حققنا أعظم الانتصارات في الخارج!

حتى أولئك العدميون الذين غرقوا في بحور اليأس، وينصحونا ليلا ونهارا بأن نكمل حياتنا بعيدا عن تلك البلاد، في قرارة أنفسهم مصابون مثلنا بالفيروس، وإلا فيما كل تلك الكآبة والعدمية.. لو أنهم فعلا صادقون في نصائحهم، لذهبوا ليخوضوا مغامرات جديدة بدلا من التنظير ليلا ونهارا عن اليأس والرعب القادم.

نحن هؤلاء الذين كتبتهم رضوى عاشور قائلة:

\”حين يراودنى اليأس أقول لنفسى لا يصح ولا يجوز، إننى من حزب النمل، من حزب قشة الغريق، أتشبث بها ولا أفلتها أبدا من يدى، من حزب الشاطرة التى تغزل برجل حمارة، لماذا لا أقول إننا، كل أسرتنا، لا أعنى أنا ومُريد وتميم وحدنا، بل تلك العائلة الممتدة من الشغيلة، والثوار والحالمين الذين يناطحون زمانهم، من حزب العناد؟ نمقت الهزيمة، لا نقبل بها، فإن قضت علينا، نموت كالشجر واقفين، ننجز أمرين كلاهما جميل: شرف المحاولة وخبرات ثمينة، تركة نخلفها بحرص إلى القادمين\”

يقولون في الهتافات \” يااللي بتسأل إحنا ميين.. إحنا شباب 25\”.. نحن الذين قالوا \”لا\”، ولا يهم إن كانت الهزيمة هي مآلنا النهائي، فما مررنا به على قسوته، إلا أنه الخبرة الأثمن التي حصلنا عليها، وإن كان لهذه البلاد أن تقوم ثانية، فلن يكون هذا على أيدي هؤلاء الذين يغرقون شاشات التلفاز بالحديث ساعات طوال عن الوطنية، بينما هم يعيثون فسادا في الأرض، لكن سيكون هذا على أيدي هؤلاء الذين مسهم الحلم ذات مرة فغيرهم للأبد.

اركب المترو عائدا للمنزل بعد يوم عمل طويل، المترو غير مزدحم بالمرة في تلك الساعة المتأخرة من الليل، اقرأ كتابا آخر لمحفوظ، يكتب عن ثورة 19، فأتذكر مشاهد جميلة من ثورتنا.. أمسك بي مبتسما على الرغم من كل شيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top