*سلسة مقالات تصف وتشرح الملاحقة الجنائية الدولية لمرتكبي الجرائم الأشد خطورة فى التاريخ الحديث.
(جيل الخمسة الكبار):
ذكرنا فى المقال السابق، أن محاكمات طوكيو ونورمبرج، لا يمكن اعتبارهما محاكم جنائية دولية بالمفهوم الدقيق للقانون الدولى، وإنما كانت محاكمات المنتصر للمهزوم، أكثر منها محاكم جنائية دولية، ولم تتكرر.
وفى مطلع التسعينيات، شهد العالم موجة جديدة من الفظاعات والجرائم الأشد خطورة، ارتكبت فى معظم أنحاء العالم، ولكن كان أخطرها على الإطلاق تلك التى شهدتها أوروبا، حيث يوغسلافيا السابقة، وتلك التى وقعت فى أفريقيا حيث روندا.
فى العام 1992 اندلعت الحرب فى يوغسلافيا بين البوسنة والهرسك، حرب ارتكبت فيها جرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية، من قتل واغتصاب وتطهير عرقى وإبادة جماعية، وقد خلفت تلك الحرب ما يقرب من 97241 ألف قتيل، منهم 39658 من المدنيين و57529 من العسكريين، فضلا عن ملايين اللاجئين والمصابين، من كل أطراف النزاع.
ولعل أفظع تلك الجرائم، هى جريمة الإبادة الجماعية التى ارتكبت ضد المسلمين فى سيربرنيتشا على يد الصرب بقيادة كرادتش، الذى قضى الشهر الماضى بسجنه مدى الحياة.
ولم يكن يتصور أحد فى العالم أو البلاد التى شهدت تلك الفظائع أن الرئيس سلوفودان مليسوفيتش، أو كرادتش قائد الصرب العظيم، أو القادة ملاديتش وسيسيلى، يمكن أن يُقبض عليهم لما اقترفوا من جرائم أثناء قيادتهم البلاد والجيوش.
وفى العام 1994 اندلع فى الجنوب -حيث رواندا- هذا الصراع المسلح بين قابيلتى الهوتو والتوتسى، الذى ارتكبت فيه أفظع جرائم التطهير العرقى والجرائم ضد الإنسانية، التى خلفت ما يقرب من 800 ألف قتيل، معظمهم من التوتسى، فضلا عن مئات الآلاف من اللاجئيين الفارين من تلك الفظاعات.
ولم يكن يتصور أحد من الأطراف المتصارعة فى رواندا أنه يمكن أن يلقى القبض على جون بول اكايسو أو يحاكم عن جرائمة هو وآخرون فى رواندا.
وأمام تلك الفظاعات الإنسانية التى ارتكبها رؤساء وقادة جيوش فى تلك البلدان، اضطر المجتمع الدولى إلى التدخل بفعل ضغوط الرأى العام العالمى وحملات منظمات حقوق الإنسان فى العالم، فكان التدخل فى تلك الحالة هو ميلاد الجيل الثانى من المحاكمات الجنائية الدولية.
فى تلك الآونة، تدخل مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بإصدار القرار رقم 827 فى مايو 1993 بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا، والقرار رقم 955 فى 1994 بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية لروندا، فيما اعتبر فى تلك الآونة تطور هام فى مجال الملاحقة القضائية للرؤساء والقادة مرتكبى الجرائم الأشد خطورة ضد حقوق الإنسان.
ولكن آخذ على تلك المحاكم -رغم أهميتها- مآخد عديدة.. أهمها:
أولا: أن طريقة تأسيس تلك المحاكم كان بقرار من مجلس الأمن، وهو الهيئة الأممية التى يغلب على قراراتها في كثير من الأحيان الاعتبارت السياسة، خاصة للدول أصحاب حق الفيتو أو كما يلقبون (الخمسة الكبار)، ففى الوقت الذى بادر المجلس لإنشاء محكمة يوغوسلافيا ورواندا، تقاعس –ومازال- عن إصدار قرار بإنشاء محكمة مماثلة للجرائم التى يرتكبها جيش الاحتلال الإسرئيلى فى فلسطين -فى حينها- ومازال.
ثانيا: إن هذه المحاكمات خاصة فقط بالبلدان التى وقعت بها الأحداث، فلا تمتد ولايتها لبلدان أخرى، أو جرائم وقعت خارج النطاق الزمنى للأحداث التى حددها قرار مجلس الأمن، فمحكمة يوغوسلافيا تنظر فقط فى الجرائم التى وقعت فى يوغوسلافيا بين عامي 1991 ، 1993، وكذلك محكمة روندا تنظر فى الجرائم التى وقعت فى روندا بين عامى 1994و1995. وتنتهى هذه المحاكمات بانتهاء المهمة المكلفة، وهى مازالت تعمل حتى الآن، وقد أصدرات العديد من الأحكام ضد بعض القادة المتورطين فى ارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة وتطهير عرقى، مثل اكايسو فى روندا، ومؤخرا أصدرت الشهر الماضى حكم سجن كراديتش قائد الصرب بالسجن 40 عاما عن جرائمة فى سيربرينيتشا.
ثالثا: إن جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب كثيرة ترتكب بشكل مستمر فى العديد من البلدان، ولا توجد جهة دولية قضائية قادرة على التصدى لمرتكبيها، ويتمكنوا دائما من الإفلات من العقاب.
وربما تلك المآخذ على الجيل الثانى من المحاكمات الجنائية الدولية، أو جيل (الخمسة الكبار)، هو الذى أسس لما يمكن أن يوصف بالجيل الثالث منها، وهو الأهم والأعظم، والذى سنتحدث عنه فى المقال القادم.