اختلفت أنا وزوجي هل نترك ابننا الأكبر يسافر ليكمل دراسته الجامعية بألمانيا أم نُبقِي عليه دفين أحضاننا، وكما تعلمنا في مصر يتعلم، لا يهم ماذا يتعلم، مثله مثل الآخرين، المهم أن يبقى إلى جوارنا وملك يميننا!
كان رأيي أن يسافر وإن أخذَته المدن وناس المدن كما يقولون، فعزائي أنه سعيد يحقِّق ذاته، يتعلم وينجح ويصل ويُقدَر حق قدره، أما والده فرأى أنني لست بأُمٍّ، وكيف لي أن أكون وأنا أرضى لابني الذي تعبنا في تربيته أن يكون لغيرنا؟ وسألني مندهشًا: ماذا لو ذهب ولم يعُد كغيره وراقت له الحياة هناك؟ هل تكونين سعيدة؟! أجبت دون تردُّد: نعم.
وانتهى الجدال بالقول الفصل، أنه سيسافر بناءً على رغبته واختياره.
ماذا كنا وكيف أصبحنا؟
هل خلعنا حرير الماضي والخيال وارتدينا \”خيش\” الواقع؟ لو كنا فعلنا لأزعجَنا ملمس الخيش وأيقظَنا على حقيقة أننا كنا رُوَّادًا فأصبحنا تابعين، كنا نمنح فأصبحنا نقبل من المِنَح ما يُرَدّ وما لا يُرَدّ، كنا نُعلِّم فأصبحنا وقد علّم الآخرون علينا. لا مجال الآن لذكر الأسباب وتوجيه السُّباب إلى من كان له يد أو حتى قدر أنملة في ما وصلنا إليه، لكنني أردت أن نقف على واقع مؤلم قبل الحديث عن الجزيرتين محلّ النزاع كما يقولون في المحاكم، وهنا يُلِحّ السؤال، وبغير إذن من الرئيس سأسأله:
أخذنا شبه جزيرة سيناء، فماذا فعلنا؟!
أكثر من أربعين عامًا ونحن المالكون لشبه جزيرة سيناء وأصحاب السيادة عليها، فماذا فعلنا؟ تركناها صحراء جرداء لا زرع فيها، إلا نبات البانجو والخشخاش، ولا ماء، إلا المالح أو ما خبأته الأرض في جوفها دون جهدٍ منا أو عمل. تركناها للأشرار يبنون أنفاقًا حيث كان يجب أن نبني أبراجًا، بل وأصبح للأشرار فيها أصهار وأنساب، فتفرقت الخيانة بين القبائل وضاعت أرواح الملائكة على يد أشباح الشياطين!
وهنا ألحّ علَيّ سؤال آخر: ترى لو كانت شبه جزيرة سيناء إلى الآن تحت سيطرة إسرائيل، فماذا كانت ستفعل بها وفيها ولها؟ وأترك لكم الإجابة التي ليس بها اختيارات وليست بحاجة إلى الاستعانة بصديق!
سيناء لم يكُن لها من الأمر شيء، ولم تُخَيَّر مَعَ مَن تحب أن تكون، فهل تداركنا هذا الأمر مع جزيرتي تيران وصنافير وتركنا لهما حرية الاختيار؟
تُرى لو أن الجزيرتين خُيِّرَتا فمن ستختاران؟!
ولأسهِّل عليك عزيزي القارئ الإجابة عن هذا السؤال، ارجع من فضلك إلى قصة ابني في بداية المقال لتعرف ماذا اختار، واقرأ التاريخ لتعرف ماذا كنا، أما كيف أصبحنا فليس بحاجة إلى قراءة بل إلى تسميع، فنحن نحفظه عن ظهر قلب، بل اعتدناه فأصبح جزءًا منَّا وأصبحنا جزءًا منه، اسأل الغارقين في الهجرة غير الشرعية واعرض الأمر على الشباب الذي يسافر في رحلات داخلية ويكون دعاء السفر الذي يردِّده: \”اللهم سخِّر لنا خاطفًا بحزامٍ ناسف يحوِّل مسار الطائرةِ إلى بلدٍ أوروبي\”، اسأل آلاف بل ملايين الفقراء والمرضى والجهلة وأرباع المتعلمين والشباب المعتقلين داخل السجون والمسجونين خارجها، بل اسأل مصر، اسأل شوارعها ومبانيها ونيلها وحقولها وآثارها، ولكم في ذقن تمثال توت عنخ آمون عبرة يا أولي الألباب!
اتركوا الجزيرتين علّهما تَلْقَيَان من الاستغلال والتطوير والبناء ما نعجز نحن بالتأكيد على توفيره لهما، فقد أصبحنا في زمن الحفاة العراة رعاة الشاة، يتطاولون في البنيان كعلامة على نهاية الزمان، ليس زماننا نحن المصريين فقط، بل انتهاء زمان العالَم بأسره، كأن انتهاء العالم بنهايتنا، وكأن القدر أراد أن يجعل لنا نهاية عظيمة كما كان لنا بداية عظيمة!