أحمد السيد الكيال يكتب: رسالة من شبه الجزيرة المحتلة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ابنتي الحبيبة:

عندما تقرأين خطابي هذا, فستكونين قد بلغت السابعة عشر من عمرك, أي بعد ستة عشر عاماً من تاريخ كتابتي له, وأعتقد بحكم معرفتي بوالدتك, أنها ستكون في منتهى الدقة, وأراهن أنها سوف تهديك خطابي هذا مع صورة قديمة لي, كهدية يوم عيد ميلادك, يالروعتها عندما تقوم بتلك الحركة اللطيفة.

أتعلمين يا ابنتي, والله إني اتمني أن تتخلى قليلاً عن مبادئها, وأن تفتح خطابي قبل موعده, حتى تعلم أن هذا الترتيب سيسعدني كثيراً, ولكني متأكد أنها لن تفعل, لربما كانت أحد أهم الصفات التي كان تثير اهتمامي, حول تلك الطالبة الجميلة \”جديتها\”, كانت والدتك إنسانة جادة جدا وملتزمة, بالرغم من أنها كانت تهتم كثيراً بمظهرها, وتحرص أن تكون في أجمل صورة, تهتم بشعرها وترتدي ملابس أنيقة, ولا تكثر من استخدام مستحضرات التجميل, كانت رائعة الجمال, جمالها يكتمل بتلك النظرة الجادة, والشخصية الملتزمة.

اتمنى من الله, ألا يوقفها حزنها على فراقي, عن استكمال مسيرتها الجامعية الرائعة, آخر علمي أنها كانت تتأهب لأن تكون \”معيدة\” في الجامعة, اتمني أن تكون الآن وأنتي تقرأين خطابي هذا في منصب مرموق, تفخرين بها كما أنا متأكد أنك تفخرين بوالدك.

عزيزتي \”فريدة\”, كان بودي أن أراك الآن وجهاً لوجه, وصدقيني لم يكن أحب وأغلى على قلبي, من أن أكون بجوارك طوال السنوات الستة عشر المنقضية, وأن تترعري بين يدي وأرى فيكي نفسي.

فالأب دوما لا يوجد في كل حياته أقرب له ومنه إلا ابنته الكبرى, ولكن كان لابد من التضحية, ستقرأين في كتب التاريخ الدراسية, ما أود أن أقوله, ولكني أريدك أن تأخذيها عني كذلك.

ستقرأين في الكتب, وسترين في أفلام السينما, كيف قدمنا التضحية من أجل هذا الوطن, وكيف استعدنا تراب الوطن المحتل, أنا متأكد من أن هذا سيكون قد حدث بالفعل قبل سنوات كثيرة من تلك اللحظة التي تقرأين فيها خطابي الآن, وسيقابلك الجميع بنظرة احترام وتقدير, ويصافحوك بإعزاز, وربما يلقبك أحدهم بـ \”ابنة البطل\”, وستسألين أنتي نفسك, وما قيمة هذا كله؟ هل سيعوض فقدان ابنة لأبيها؟

تلك هي الحياة يا ابنتي, الموت بشرف أفضل كثيراً من حياة ذليلة, وفي المعارك الوطنية الكبرى، الموت دوماً يحصد أرواح الأبطال, فلعلي أسألك بدوري, وما قيمة أن أكون بجوارك مهزوماً؟! منكس الرأس لا أقوى على النظر في عينيك, اخجل من مجرد التفكير في كيفية الرد على أسئلتك, عن أرضنا المدنسة بأقدام أعداء الإنسانية؟!

ابنتي الحبيبة, أعلم أن والدتك ستخبرك بالكثير عني, لكني أود أن أخبرك بلسان الأب بعض الأشياء, وأرجوك أيتها الجميلة – أنا اتخيلك الآن وأنا أكتب تلك الكلمات كيف ستكونين بالغة الجمال-  أرجوك يا ابنتي ألا تغيري أي قناعات لديك, بعد أن تتعرفي أكثر على من كلماتي التالية, فأهم ما تعملته في حياتي, أن أفضل شيء في تلك الحياة, أن يمتلك كل فرد حقه في أن يأخذ قرارته بنفسه، أن يختار مصيره ومسيرته, لذا اعتبري كل ما سأذكره لك مجرد ذكريات, هي أيضاً بالفعل من زمن آخر, اتذكر الآن  كيف كانت ترتسم على شفتاي تلك الابتسامة البلهاء عندما كان والدي دائما يردد جملة واحدة, كلما كانت أمي تشكو إليه مني, فقد كنت في نظرها  ولداً مشاغباً, كان والدي يقول \”رفقاً بابنائكم, فزمنهم غير زمنكم\”, كانت هذه الجملة في وقتها تشعرني بالراحة الشديدة والسعادة أيضاً, لأنها كانت تمهد لي الطريق لأظل أتابع مباريات كرة القدم, التي كنت أعشقها, كما أني كنت أمارس نشاطاً سياسياً أيضاً, وفي حقيقة الأمر أن أمي كانت ترتعد من كلمة \”سياسة\”, ولها في ذلك سبب وجيه, فشقيقها الأكبر استشهد في ثورة 19, ولم تقتنع يوماً أنه كون الثورة تحكم الآن, أو أن قائد الثورة على رأس السلطة, فبالتالي نشاطي السياسي لن يعرض حياتي للخطر, بل كانت دوماً تقول وما أدراني من سيأتي من بعده؟ وعندما كنت أطمئنها وأقول لها \”يا أمي لا تقلقي لن يحدث شيئاً مما يدور ببالك\”، كانت تنظر لي بيأس وتقول \”فتى حالم\”.. أضحك كثيرا وأنا أتذكر تلك الكلمات الآن.

\”فريدة\” والدك مؤمن تماماً بالثورة, وأحد شبابها المخلصين, كنت أحفظ المثياق الوطني عن ظهر قلب, ولم يهتز إيماني وثقتي في الثورة أو قائدها, لمجرد هزيمة في إحدى جولات المعركة, فالمعركة أيضاً مستمرة, وإن كنا خسرنا جزءاً من أرضنا, فسنعوضه ونعيد الأرض.

أما الأهم أن إرادتنا لم تنكسر, لم نرضخ لما يريدون أن يفرضونه علينا, لن نفرط في استقلالنا الوطني, فمضيق تيران وجزيرتي \”تيران\” و\”صنافير\” أراض مصرية، وبالتالي فالمياه مصرية، ولنا حق أن نتحكم في المضيق وفق القانون الدولي, لم نكن المعتدين أبداً كما يروجون.

عموما مازالت مكتسبات الثورة لم نخسرها, عزيزتي لن أضيع الوقت القصير جدا الآن في هذا الكلام الذي ستعرفيه جيداً من غيري.

حبيبتي \”فريدة\”, والدك كان مهوساً بالأدب, قرأت لشكسبير وتشالرز ديكنز وكافكا وديستويفسكي وأنطون تشخوف وفيكتور هوجو ومكسيم جورجي وتولستوي وآخرين, كما كنت عاشقاً للسينما, كانت لي زيارة أسبوعية للسينما, وعلى فترات متفرقة للمسرح, لم يكن في زمننا من لا يعشق \”أم كلثوم\”, فكانت لا تذكر في مقارنات مع أحد سواها, فمن الجنون إن كنت لا تسمعها, لا أعلم كيف ستستقبلين وأنت من جيل غير جيلنا هذه المعلومة, ولكني متأكد أنك لن تسخري مني, كنت أعشق كل أغاني \”عبد الحليم حافظ\” الوطنية, كان مغني الثورة, وكان معبرا عما تجيش به صدورنا, كنت أحب مشاهدة مباريات كرة القدم, وكنت أذهب إلى الملعب باستمرار, حتى بعد أن امتلكنا \”التلفزيون\”, كنت أحب السباحة, وكنت أحلم بأني سأعلمك السباحة يوماً ما.

\”فريدة\” ابنتي الحبيبة, كنت انتظر بفارغ الصبر أن أسمع كلمة \”بابا\” بصوتك الرقيق, وكانت ستكون أغلى كلمة علي في هذه الحياة, كنت اتمنى أن أسمعها منك, وأنا منتظرك بعد عمر طويل مديد, سأسمعها منك, وتضعين يدك على خدي, وتقبلين خدي الآخر, أعانقك ونحن نجلس سوياً على شاطيء يشبه شاطيء خليج العقبة.

ملحوظة: حبيبتي هذه ليست دموعا, إنها مجرد قطرات عرق حاولت أن أزيل أثرها من على الورقة، ولم استطع سامحيني, لا اعلم إن كان إصفرار الورقة بعد 16 عاماً سيمنع ظهور أثرها أم لا، ولكني خفت أن تعتقدي أنها دموعي.

أبو فريدة \”كما أحب أن يناديني الجميع\” 

1969 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top