(1)
دلفت إلى البيت بعد يوم طويل وشاق مُمنية نفسى بكوب من الحليب الدافئ وبعض الكتافاست الكافيين لإسكات الدق الذى يعتصر رأسى، فإذا بى أجد أمى شريدة الذهن، يبدو عليها الحنق والضيق، فاقتربت منها بهدوء متسائلة عما يجول بخلدها، لتباغتنى قائلة: \”فاتورة المية جات النهاردة 240 جنيه، وطبعا مادفعتش! 240 جنيه إيه دول بيهرجوا؟ ده الشهر اللى فات كانت 40 بس\”.
فسألتها ماذا تنتوى أن تفعل، فقالت إنها ستذهب إلى فرع الشركة القابضة للمياة القريب من منزلنا لتقدم شكوى ولتستفهم عن الأمر.
وبالفعل، حكت لى أمى فى اليوم التالى أنها ذهبت فى الصباح الباكر لتقديم شكوى، لتُفاجئ بوجود عدد كبير من المواطنين يتقدمون بشكاوى تخص قيمة الفواتير المُستحقة عليهم، وما بين البيروقراطية العتيدة التى تقضى على قدرة أى إنسان فى الاحتفاظ بهدوء أعصابه، وما بين تعنت الموظفين الشديد –ولعلمى بضيق صدر أمى السريع وعصبيتها التى ورثتها عنها- ثارت صائحة فى الموظفين طالبة أن تقابل أحد مسئولى القطاع، ليشير لها أحدهم على مكتب المديرالإدارى، فتذهب إليه مُستفهِمة، فيعطيها بعض الأجوبة الواهية على أسئلتها، قائلا إن الفارق الكبير فى قيمة فاتورة هذا الشهر يرجع إلى خطأ فى قراءة العداد، وإنه يجب إصلاحه أو استبداله بآخر مع دفع قيمة تأجير عداد جديد، وبعد نقاش طويل لم تقتنع أمى بأغلب الأعذار المُقدَمَة إليها فيه، وبعد أن نفذ صبر الرجل، أعلنها لها واضحة مدوية، قائلا \”دى سياسة دولة، إنها أوامر عليا لا يد لنا فيها، إن الدولة تحتاج إلى المال، فقررت رفع قيمة الفواتير المستحقة على المواطنين\”.
تحكى لى أمى أنها بعد أن سمعت هذا من المدير شخصياً رحلت، فلم يعد هناك حاجة لتقديم شكوى، فقامت بتغيير العداد ظنا منها أنها بهذا ستسد كل الذرائع التى تسطيع أن تنفذ سياسات الدولة العليا منها إليها، فحين تأتى الفاتورة عالية القيمة الشهر القادم ستستطيع أن تقول بملأ فيها \”أنا عدادى سليم يا ناس\”!
لم يكد هذا الموقف يمر، حتى وفد إلينا مُحصل قيمة فواتير الكهرباء، لنجدها أيضا زائدة عن الحد على كل الحى، وبسؤال المحصل عن سبب هذه الزيادة الفجة أجاب بسخرية وبكل بساطة: \”هنلاقى طرابيش منين ناخد منها غيركوا؟\”.
(2)
كنت أظن الموضوع فى البداية مجرد زيادة عشوائية، حتى فُوجِئت بهشتاج يتصدر مواقع التواصل الاجتماعى، ألا وهو #امسك_فاتورة، حيث قام المتضررون بتصوير فواتير المياة والغاز والكهرباء، مُوضحين الزيادة المهولة فى الفارق بين الفواتير القديمة والفواتير التى تخص شهرى فبراير ومارس.
مع متابعتى للموضوع عن كثب وتنقيبى خلف منشورات الهشتاج، وجدت أن الموضوع يتفاقم ويزداد عن حده، وسط صرخات المواطنين التى تصم الحكومة عنها الآذان، فهى تسمع فقط من وما تريد، تسمع أولئك الذين يبررون كل وأى شىء مهما كان ثمنه وغاية تحصيل هذا الثمن، فبرروا زيادة قيمة الفواتير بعدم قدرة الحكومة على إيجاد مصدر للدخل لوفاء احتياجات شعبها، فوجب أن تأخذ منه باليمين لتعطى له باليسار، برروا التنكيل بهشام جنينه وجهازه الرقابى، وبرروا التقشف والتصبيح على مصر، لكننى على ثقة ودراية تامة أنهم لم يبرروا عدم تقشف الرئيس معنا، وعدم اتباعه خطوات التوفير، ولم يبرروا شُرب الرئيس مياه إيفان الفرنسية المُعقمة، بينما يحدثنا عن الاقتصاد فى الحاجات، ويعطى الأوامر العليا بزيادة فواتير \”كل شىء\”، ليس لإنهم لا يريدون، بل لإنهم لا يقدرون، فلا أحد –مهما بلغت قدرته على التبرير والنفاق- يستطيع أن يفعل، رغم علمى بأن مُبررى النظام يكتسبون مع الوقت مناعة تُمكنهم من تبرير أى شىء.
(3)
حين كنت طفلة، كانت أمى تجلب لى مجلدات ميكى بسبب حبى الشديد لقصصها، ورغم تساؤلى البرئ الطفولى الدائم عن سبب تسمية المجلد بـ\”ميكى\” رغم إن أغلب قصصه تحدث فى مدينة البط وأبطالها الحقيقيين هم بطوط وزيزي وعم دهب، إلا أننى واظبت على قراءتها وتشبعت بها وأحببتها كثيراً، حتى بعد أن تخطيت سن القصص والأحلام ووصلت إلى ريعان الشباب، لازلت أحب أن أقرأها إذا ما وقع فى يدى أحدها.
أكثر ما كان يلفت نظرى فى قصص مدينة البط، هو عصابة القناع الأسود، تلك العصابة البلهاء الخرقاء التى تحاول سرقة خزانة عم دهب مرارا وتكرارا دون أن تنجح فى هذا بسبب غبائها، ومع ذلك تأتى ثمار أفعالها الحمقاء على بطوط \”الغلبان\”، ليتحمل هو وحده كل اللوم والتوبيخ فى عدم قدرته على حماية أموال العم دهب، الذى يعيطه ما يكفيه بالكاد ليعيش.
عندما يتراءى لى المشهد الآن، أشعر أننا محكومون بشكل ما بعصابة تشبه عصابة القناع الأسود، هى عصابة خرقاء أولا وأخيراً، غير مُبدعة بالمرة فى سرقاتها، لا تمتلك أدنى قدر من الموهبة على السرقة بخفة، يتملكها الغباء فى كل قراراتها، وربما بعض \”البجاحة\”، فتسرق بصخب، وتُنبِه غير المُنتبه لها إلى أنها تسرق، فتغترف وتعب عباً من أموال عم دهب، ولا يستطيع أفرادها الهرب لثقل ما يحملونه، فيُرجعون بعضه، ليتركوا خلفهم خيطاً من الأموال المُتساقطة على الأرض يقود إليهم، ليعرف الجميع أن عصابة القناع الأسود هى الفاعلة، دون أن يتفوه أحد بحرف، ليُلقى اللوم كله على بطوط المسكين.
إنه لشىء مُحزن حقاً أن تحكمنا عصابة تفتقر إلى الخيال، ولا تقدر على سرقة المواطن بأسلوب أقل حماقة وفجاجة وبدون أن يشعر هو بإنه يُسرَق، ولكنى أرد هذا إلى عدم وجود الخيال فى المُبررين، فالمُبرر لكل شىء هو الذى يُعود النظام على أن يضفى أى حجة واهية ويُلصقها بأفعاله لأنه يعلم أنه سيجد من يصفق له ويدعمه دون إعمال للعقل، كتبرير ارتفاع الفواتير بزيادة الاستهلاك وأغلاط قراءات العددات، وتبرير طول السجادة الحمراء التى سارت عليها سيارات موكب فخامته بأنها محض طلاء أحمر اللون.
كنت أتمنى أن أعيش فى ظل حكومة قادرة على إبهارى ولو بقليل من الأكشن، خصوصاً فى سرِقتها لى، أو حتى ان تُكلف خاطرها لتُخصص لمسئوليها وموظفيها ورش كتابة إبداعية، تُمكنهم من اختلاق الأعذار وابتكار سيناريوهات حديثة للسرقة، ليُسرَق الشعب وهو \”مُنشكح\” وسعيد، بدلاً من أن يجلس على رصيف الشركة القابضة للمياه ناظرا للفاتورة يبكى، كتلك السيدة العجوز التى رأتها أمى وهى تهم بمغادرة المكان.