لم يقل فيلم \”نوارة\” للمخرجة هالة خليل، إن ما حدث في 25 يناير 2011 لم يكن ثورة، بل لعله لا يريد قول ذلك أصلاً، على رغم ما جرى في نهر الأحداث، خلال الـ18 يوماً، وما تلاها، مما عكّر صفو الأحلام، وشوّش الآمال، وجعل المستقبل أكثر ضبابية، وقابلية للنكوص، إلى درجة يجعل الترحّم على أيام زمان أمراً ممكناً لدى الكثيرين من الذين انهارت بهم الأيام، فتزعزعت سكينتهم، وتقوّض اطمئنانهم، على ما كان فيه من أوهام، خميرتها الفقر والقلة الحيلة والتعب حدّ المذلة، والنفور من التمرّد والخوف من التضحية.
هذه المرة، ومع فيلم \”نوارة\” (122 دقيقة، 2015)، يمكن القول إن السينما المصرية قاربت ثورة يناير 2011، بواحد من أهمّ أفلامها وأكثرها ذكاء، غير غافلين عن \”الشتا اللي فات\” للمخرج إبراهيم البطوط، و\”بعد الموقعة\” للمخرج يسري نصرالله، و\”فرش وغطا\” للمخرج أحمد عبدالله، ولا عن \”18 يوماً\”، و\”تحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي\”، وكثير من الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة. فبالاستفادة مما سبق، وبالموازاة معه، يأتي \”نوارة\” إضافة سينمائية هامة، تنبغي قراءتها من مستويات عدّة، لا ضير إن كان من بوابة الثورة، أم من باب الفعل السينمائي، فهذا الفيلم مكتنز بما يريد قوله وتقديمه على الشاشة، ليبدو أقرب إلى مداخلة سينمائية طويلة تنبش جراحاً لم تندمل بعد.
المشاهدة المتأنية لفيلم \”نوارة\” مثيرة وممتعة في آن، لما ينطوي عليه من قصديات فكرية وممارسات سينمائية مدروسة، وعلى قدر كبير من الاختلاف والتميّز والنباهة. إنه فيلم ثوري أكثر مما هو فيلم عن الثورة، فيلم لا يستسلم بسهولة لفكرة الثورة، لا لهيجانها، ولا لإغواءاتها، وميادينها، وشعاراتها ووقائعها، بل يتعامل بطريقة ثورية مع فكرة الثورة، ويضعها في سياق جدلي تاريخي، اقتضى منه العمل على تشريح ثلاثي الأبعاد، طال كلاً من البنية الاجتماعية، ومؤسسة الدولة، وبنية النظام، هذه الأقانيم التي تتبادل الفعل وردّ الفعل، والتأثير العميق، فيما بينها، من دون توفّر القدرة الدائمة على تحديد التخوم الفاصلة بين أيّ منها والآخر.
منذ المشاهد الأولى تتوضح نيّة فيلم \”نوارة\” بالاستفادة من الخلفية التاريخية التي توفرها ثورة يناير 2011، للغوص في عملية تشريح البنية الاجتماعية المصرية، التي نراها تنقسم في شكل فادح ما بين الفقراء والمفقرين، من جهة، والأغنياء والمثرين، من جهة أخرى، لنجد أنهما عالمين منفصلين تماماً: عالم الأسياد، وعالم العبيد، ولا رابط بينهما سوى رحلة الذلّ اليومية للعبيد الذاهبين للعمل في خدمة الأسياد، عائدين في المساء إلى «عششهم»، التي لا تليق بالحياة الآدمية، ولا بعيش البشر وكرامتهم الإنسانية.
ومع انسحاق الطبقة الوسطى، وأنصاف المتعلمين، تحت وطأة الإفقار، تتنشر مظاهر الفساد والإفساد الاجتماعي وأمراضه: السرقة واللصوصية، وانتشار النمط الطفيلي في الاقتصاد، على حساب الاقتصاد الإنتاجي، لنجد الفتاة نوارة تعمل خادمة، وجدّتها تبيع السندويش، ولا يبتعد علي أيضاً عن هذا الطراز من المهن غير المنتجة، التي لا تولد في النهاية إلا المزيد من الفقراء والمفقرين، في تعميق للشقة الاقتصادية ما بين قاعدة المجتمع وقمته التي تراكم ثرواتها أيضاً بطريقة أقرب إلى الريعية، إن لم يكن النهب والرشاوى واستغلال المنصب.
بوجود هذه البنية الاجتماعية المعلولة، سيكون من الطبيعي أن تكون مؤسسة الدولة تعاني من مزيد من العلل. مؤسسة منخورة بسوء الإدارة، تعاني من معضلات الفساد: ليس فقط على مستوى الصحة والماء، كما يبدو في ظاهر الصورة الفيلمية، بل في مختلف مناحي الحياة، بما فيها افتقاد القدرة على استيعاب الطاقات البشرية المهدورة إمكاناتها، بخاصة الشباب منهم، والعجز عن حماية حياة الناس وصحتهم، وتأمين معيشة كريمة، ذات كفاف لهم. مع مؤسسة دولة من هذا الطراز الناس متروكون لمصائرهم وأقدارهم التي تطوّح بهم، قشة في مهبّ أكثر من ريح عاتية، لا تبقي ولا تذر.
ولا تنفصل بنية النظام عن مؤسسة الدولة إلا بمقدار الرغبة في الحفاظ على الحصة الأكبر من المغانم، في مقابل الحدّ الأدنى من الخسائر، إن لزم الأمر. هكذا تبدو مؤسسة الدولة مطية بنية النظام، وكبش الفداء الجاهزة للتضحية بها عند كل منعطف، وفي كل مأزق، وبالقسوة اللازمة، بما فيها الفتك الدامي، من سجن أو إبعاد. مطاردة وحتى قتل. وهذا ما يوضح قوة القبضة الأمنية التي تتمسك بها بنية النظام، وتواريها بخبث خلف ظهر مؤسسة الدولة، لتبدو هذه في صورة الفاعل، وهي في الحقيقة ليس أكثر من عكازة نخرها نمل الفساد والانفتاح منذ أكثر من أربعين سنة.
التأثيث المدروس لفيلم «نوارة»، على هذا النحو، لن يستقيم إلا إذا تمّ التعامل مع الثورة بوصفها حدثاً خارجياً، يجري على الضفة الأخرى من تواجد الشخصيات مادياً ونفسياً. هنا من الواجب أن لا تنتمي الشخصيات إلى زمن الثورة. لا ينبغي أن تدخل فيه، ولا أن تخرج منه. الثورة حدث خارجي، وهذا يعني أنه لن يحدث أيّ تغييرات درامية عاصفة، أو جوهرية، في أيّ من شخصيات الفيلم، وعلى هذا ستستمر نوّارة في ذهابها وإيابها ما بين القطبين: الأشد تعاسة حيت تعيش، والأكثر بذخاً حيث تعمل. وسيستمر علي في دوامته المركبة: النفسية والمادية والاجتماعية، بما فيها من فقر وكبت وقلة حيلة وعجز.
كأنما فيلم \”نوارة\” يريد القول إن الثورة لم تدخل حياة الفقراء، ولم تزعزعها. فقط عندما غيّرت الثورة من حياة الأسياد، أحدث تغييراً في حياة العبيد، ولذلك كان الحجر الذي جرى رميه في مستنقع حياة نوارة، يتمثّل في مغادرة العائلة الثرية التي تعمل نوارة خادمة لديها، واضطرارها لترميم هذا الغياب.
يرسم الفيلم الفارق ما بين الثورة والتنحي؛ ترتبط الثورة بفعل التضحية التي يتهيّب الكثيرون منها، والتي تتنافى مع ميل المواطن أمثال نوارة إلى السترة، بينما يرتبط التنحي بتحقق الفكاك من عقد الإذعان المفروض على المواطن من دون رغبة ولا إرادة. لم تخرج نوارة إلى الثورة، لكنها خرجت عقب التنحي، تعترف بذلك، وتأمل أن يكون لها نصيب من الأموال المنهوبة، ولكنها بدل الأموال المنهوبة من قبل مبارك، سوف تحظى بقليل من الأموال المنهوبة من قبل أسامة باشا.
في \”نوارة\” لن نرى من خرج إلى الثورة، ولن نمرّ على ميدان التحرير، وشهدائه، ولكننا سنرى من لم تدخل الثورة إلى حياتهم، ورغم ذلك يدفعون الثمن، وسنغوص في أحياء القاع القاهري، في أسوأ صوره، من دون أن يشي لنا ببارقة أمل. ومع هذا يمكن القول بشجاعة إن فيلم \”نوارة\” فيلم ثوري على مستوى الفكرة والتناول والسرد، كما هو متميّز على مستوى التنفيذ السينمائي، فصاحبة \”أحلى الأوقات\” و\”قصّ ولزق\” عرفت كيف تقول قولتها السينمائية، وشهادتها الإبداعية، في زمن الثورة التي سرعان ما أضحت ذكرى. الممثلة منة شلبي في غاية التوفيق وهي تتلبّس \”نوارة\”، أكثر من مجرد أن تؤديها، وتتويجها بجائزة أفضل ممثلة عربية في الدورة الـ12 من \”مهرجان دبي السينمائي الدولي\” (ديسمبر 2015) مستحق تماماً. محمود حميدة وأمير صلاح الدين وأحمد راتب وشيرين رضا ورجاء حسين، وغيرهم، في هارموني أداء ممتاز. تصوير زكي عارف، ومونتاج منى ربيع، وموسيقا ليال وطفة، ركائز أساسية وقوية في هذا النجاح، الذي قادته إلى التميّز المخرجة الاستثننائية هالة خليل.