بيشوي القمص يكتب: دمتم عبيدا

غارقة في عرقي ودقات قلبي متسارعة كموتور سيارة تسير بسرعة 300 كيلو في الساعة، حتى يكاد قلبي أن يقفز من مكانه.

فجأة انتبهت حواسي دفعة واحدة.. واستيقظت، لقد كنت أحلم ويا له من حلم سخيف، كم أكره الكوابيس.

ربما كان ذلك جراء القراءة المستمرة في تاريخ ألمانيا النازي، وسيطرة إعلام جوبلز على المواطنين الشرفاء في ذلك العصر الأسود، يجب أن لا أفرط في القراءة قبل النوم مرة أخرى تفاديا لمثل تلك الكوابيس السخيفة.

مرغمة حتى لا أتأخر عن موعد التصوير، نهضت من فراشي، لكن قلبي كان لا يزال منقبضا حتى يخيل لي أن صوت دقاته قد صار مسموعاً من بعد، وأنا أعلم معنى انقباضة قلبي جيداً.

مسرعة أخذت طريقي إلى وسط البلد حيث موعد تصوير التقرير المتلفز، كجزء من عملي كمراسلة لأحد المواقع الإخبارية الشهيرة، وبطبيعة الحال فإن منطقة وسط البلد هي المنطقة المفضلة لدي، كونها أكثر مناطق القاهرة ازدحاماً وتنوعاً ثقافياً وثراءاً اجتماعياً وفكرياً، وبالتالي فهي مادة خصبة للحوارات الصحفية، واخترت بنفسي موضع التصوير مقابل نقابة الصحفيين.. يا ليتني ما فعلت.

فجأة وقبل أن ننتهى من إعداد الكاميرات، تقدم إلينا أحد المهمشين في الأرض، مواطن غلبان بكل ما تحمله الكلمة من معان، ولبسه \”على قد الحال\” بامتياز، وطلب بنفسه أن يشاركنا التصوير، فكرت للحظة قبل أن اتخذ قراري بالموافقة، فكفانا تقديم الصورة الكاذبة المجملة بالمساحيق عن مصر.

حاولت أن يتخذ الحديث الشكل الساخر، فسألت \”المواطن الغلبان\” سؤالا كوميديا عن الأحوال في مصر، فاندفع الرجل في الحديث بكل حماس، وكأنني فتحت مرجلا بخاريا يغلى منذ سنوات، وبدأ الرجل يشكو آلامه ومعاناته مع السكن والخبز والدواء كمواطن طبيعي في جمهورية مصر السعيدة، وبأسلوب هزلى وبكل حب، فجأة وكأنه ظهر من العدم، فوجئت بأحد المواطنين الشرفاء من الذين تعج بهم البلاد في تلك الأيام، يحمل روب المحاماة الشهير، ويقتحم الكادر ويوقف التصوير ويغلق الكاميرا التي يحملها المصور بكل عنف، قائلا: \”ينفع يعني تصوري مع واحد جربان وهدومه مقطعة وسايبة الناس المحترمة اللي زيي وزي ناس كتير؟ مالقتيش غير المعفن ده تصوري معاه؟\”.. هكذا قال نصاً! بينما لازلت أنا في مرحلة الصدمة أحاول جاهدة استيعاب الموقف، والعثور على رد مناسب، يتناسب مع فعلته بغير الوقوع تحت طائلة القانون.

قبل أن استفيق من الصدمة الأولى، كان المواطن الشريف قد طور تكتيكه الهجومي، وأمسك ضيفي المواطن الغلبان من ملابسه بقبضته العريضة، وشدها بكل قوة، ثم انتقل إلى محاولة شد بنطال الغلبان، وإجباره على خلعه بالقوة قائلاً: \”ده منظر تصوري معاه؟ ده منظر تصوري معاه؟ هي دي الوجهة المشرفة للبلد؟ حسبي الله ونعم الوكيل.. إنتو مش محترمين وولاد …….\”، لم يقو الغلبان على المقاومة ولا الرد، ولا حتى الدفاع عن نفسه، وأكتفى بالصمت وتحمل نصيبه من السخرية، ربما خشى أن يكون جزاء مقاومته المزيد من العنف.

المفاجأة ألجمتني وأعجزتني عن الرد، قبل أن يترك المواطن الشريف ضيفي الغلبان وينهال علينا أنا والمصور بقاموس فريد من أقذر أنواع الشتائم والسباب، في تلك اللحظة تحديدا دار في عقلي شريط طويل من الذكريات الجميلة للبلد، قبل أن يتولى الفص الأيسر من العقل مسحها بمنتهى القوة والعنف، ليحل محلها كل ما قرأته في كتب التاريخ عن ميليشيات هتلر ومواطنيه الشرفاء وسيكولوجية الجماهير وعنفهم، وفي لمح البصر وقبل أن أفيق من الصدمات السابقة، ظهر قطيع من المواطنين الشرفاء، تدفقوا من كل صوب وحدب، كقبيلة من الزومبي، ليقدموا واجبهم الوطني في الدفاع والذود عن الوطن، ويشاركون الأستاذ المحترم في وصلة سبابه المقذع، بدون حتى أن يعرفوا فحوى الموضوع، ولماذا يهاجمنا هذا المواطن الشريف الذى يفترض أنه يعي معنى الحقوق أكثر من أي مواطن آخر.

ترددت صيحات متفرقة على مسامعي من نوعية: \”دول يستاهلوا الضرب\”، وشعرت بالخطر الحقيقي!

اللعنة.. لقد بدأ الكابوس يتحقق بكل تفاصيله، بعدها بثوان تقدم أحدهم إلى المصور، تردد الرجل للحظة ثم أستجمع شجاعته، وقام بضرب المصور! ولما وجد تشجيعا من الآخرين، استمر في الضرب، ثم تطور الأمر بسرعة، وامتد الضرب ليشملنا نحن الاثنين وبمنتهى العنف والقوة وبدون سبب واضح!

في تلك اللحظة تحديدا، ابتعد الرجل الغلبان عن مرمى النيران قبل أن ألمح في عينيه نظرة حسرة وأسف، ثم انهمرت دموعه حارة قبل أن يبتعد بعيداً ويختفي.

لا أنكر أننى حاولت الفرار تطبيقا للمثل الشهير \”الجري نص الجدعنة\”، ففي النهاية أنا أنثى، ولن اقوى على تحمل المزيد، بينما المصور يستطيع تحمل المزيد قبل أن تأتى النجدة.. هذا إن أتت أصلاً.

وقبل أن أبحث عن منفذ آمن للهروب، أرسل لي القدر إحدى المواطنات الشريفات من قبيلة الزومبي، أمسكت بذراعي بقسوة، وبدأت في ضربي على ظهري بكل غل قائلة: \”إحنا عارفين البت دي بتكره السيسي والنظام\”.

كم تمنيت في تلك اللحظة تحديداً أن أكون حرة حتى أسالها متى وأين رأتني في السابق، وكيف علمت بموقفي من النظام؟

لحسن الحظ قام أحدهم بدروه الوطني، وأبلغ الشرطة عن المخربين والجواسيس الذين يقومون بتشويه صورة النظام كجزء من المؤامرة الخارجية التي يشنها مجلس إدارة العالم على مصر، وفي دقائق معدودة حضرت قوة من الشرطة ليتحفظوا عليّ مع زميلي الذى امتلأ وجهه بالكدمات الواضحة، ثم سألنا الضابط عن هوياتنا وتصريح التصوير والجهة التابعين لها، وعندما أيقن أننا لا نقوم بأي عمل مخالف تركنا نمضى في حال سبيلنا بدون أي إدانة للمواطنين الشرفاء الذين تعدوا علينا بالسب والقذف واتهامات العمالة والخيانة، ثم بالضرب، وأهم من ذلك أنهم قد تعدوا على حريتنا الشخصية في وطن لا يعرف للحريات معنى، وسلبونا حقنا في وطن الحقوق فيه مجرد كلية، والعدل شركة انتاج سينمائي، والوطنيـة محطة بنزين.

انتهى هذا اليوم الأسود من حياتي بعدما مات بداخلي كل شيء، فحرفيا بلادي لم تعد صالحة للحياة الآدمية ولا لأى شيء آخر، فأنا إن استطعت محو آثار الضرب والإهانة من مخيلتي، فلن أستطيع محو نظرة الراجل الغلبان ودموعه التي تساقطت غزيرة بفعل الذل والإهانة والعنصرية..

دمتم عبيدا.

* بتصرف من قصة حقيقية كتبتها Sara Fouad على صفحتها الشخصية على فيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top