يبدو أن مفهوم العدالة الحقيقي غائب تماما عن مصر في ظل نظامها الحالي. واضح أن فكرة العدالة بمفهومها القانوني والحقوقي ليس لها وجود إطلاقا عند من يحكمون مصر حتى القانونيين منهم, بل يغلب عليهم طابع غريب عن مفهومهم للعدالة.
مفهومهم عن العدالة يتلخص في تقمص شخصية ناظر المدرسة مع لمحة أبوية, مقتنعين تماما أن بهذا الدور يتحقق العدل.. يتعامل النظام مع المواطنين من منطلق الواصي الأخلاقي والديني, متجاهلا تماما أن الفاصل الوحيد في التعامل مع المواطن هو القانون، فترى رأس النظام وهو يتحدث بلهجة أبوية تتأرجح ما بين حنية الأب الحنون وبين لهجة تهديد الأب وتوقيع عقوبات هو يحددها ويراها مناسبة.
تشعر مع مثل هذا النظام -إنه في الواقع ليس نظاما حاكما بحسب قوانين ودساتير- بل هو وصي على الشعب من الناحية التربوية والأخلاقية والدينية.
أحد الأمثلة التي لن أنساها أبدا, هو ما حدث في أحد قضايا التحرش الجنسي.. نحن معشر الحقوقيون قضينا أعواما وأعواما نتحدث عن التحرش الجنسي وضرورة وجود محاسبة حقيقية وقوانين رادعة وتطبيق فعلي من السلطة التنفيذية، وتم تجاهلنا تماما, ولكن ما حدث أن في أحد المظاهرات الحاشدة المؤيدة للنظام حدثت واقعة تحرش كبيرة.. كان غضب النظام عنيفا, وكانت النتيجة أن شخصا ما تم الحكم عليه بالمؤبد عقابا على هذه الواقعة.. كان من الواضح تماما أن مثل هذه العقوبة هي فقط للتربية ولإعطاء درسا ما، وليست لتطبيق العدل. ففي الأغلب هذا الشخص ليس هو من ارتكب الجريمة، وأيضا عقوبة التحرش ليست المؤبد.. يعني غياب كامل لكل مفاهيم العدل واستبدالها بمعايير تربوية.
ربما يعتقد النظام أن الشعب مازال تلميذا صغيرا في المدرسة, أو ربما النظام هو نفسه أقصى إمكانياته السياسية هي إدارة مدرسة، وليس دولة قائمة على سيادة القانون والعدل، فنرى أن الدولة وصل بها الحال إلى أنها تطبق نفس الفكرة حتى في التعامل مع القائمين على أجهزتها.
مثلا ما حدث مع وزير العدل \”الزند\”, وهو الذي له تصريحات يشيب لها الولدان مما فيها من انتهاك صارخ لكل المبادئ القانونية مثل \”قصاد كل جندي يقتلوه، حنقتل 10 آلاف إخواني\”، إلى آخره من مثل هذه التصريحات, وهي تصريحات مقبولة في إطار المنظومة المدرسية الأخلاقية، والمقبول فيها بالعقوبات الجماعية, وتذنيب الفصل كله عشان تلميذ واحد عمل غلطة، ولكن بالرغم من فظاعة ما قال مما يتنافى مع العدل، لكن نهايته كانت عندما قال جملة تم اعتبارها إهانة للأنبياء!
هنا كانت نهايته, لقد أضر بالمنظومة التربوية الدينية، ولذا وجب عقابه, لكن انتهاكه للمنظومة القانونية لا يستلزم العقاب، طالما في إطار المنظومة التربوية، فمها كانت الخناقة في الحوش شديدة، تكون نهايتها بأحد الطلبة يصيح: \”حاسب يا عم الشنطة فيها كتاب دين\”، وعندها تتوقف الخناقة، لأنها اقتربت من الحاجز التربوي الديني، وليس لأنها \”خناقة\” في حد ذاتها وفعل غير قانوني.
ومن ناحية الفن والأدب, نرى أن نقابة الموسيقيين تحولت إلى بوليس آداب عامة تعطي لنفسها الحق في القبض على من يمارسون الموسيقى المختلفة عن المقبول لديهم، وكأن هؤلاء أطفال في منزل هاني شاكر، وهو يمارس مهمة تربيتهم, وهم قانونا لم يرتكبوا أي جريمة قانونية.
عندما ترى محاكمة ومعاقبة كاتب رواية مثل أحمد ناجي لمجرد أنه استخدم بعد المصطلحات العامية للأعضاء التناسلية, وهي على فكرة كلمات تسمعها يوميا في الشارع وعلى مدار الساعة، لكن كان يجب \”تربيته\” ليس لأنه ارتكب جريمة قانونية, ولكن فقط لأنه أخل بالمنظومة التربوية الأبوية المصطنعة التي يمارسها النظام.
يجب أن يتوقف النظام عن مثل هذا الاتجاه وعدم استخدام فكرة أن \”التربية فضلوها عن العدل\”.. هذه التي يتمسك بها، وأن يسرع فورا بإقامة دولة العدل القانونية المنصوص عليها في القانون المصري، وأن يصبح القانون هو الفيصل الوحيد في التعامل بين النظام والمواطن، بدون أي اجتهادات أو تقمص لشخصية الأب أو ناظر المدرسة, والتعامل مع الشعب على أنه شخص ناضج له الحق في الاحتكام للقانون، وليس لعقلية أب بيحاول يربي عياله بحسب ما هو يرى ما فيه من مصلحة وتجاهل المرجعية القانونية.