إكرام يوسف تكتب: حتى آخر العمر

في بدايات الشباب، \”يعني من إعدادي كده وأنت طالع\”، وفي غمرة القراءات المحمومة والمكثفة، عن الاشتراكية والثورات وكفاح الشعوب الحالمة بالحرية، وعن فلسطين، وأمريكا اللاتينية وفيتنام، كنت مؤمنة أننا لن ننعم بالحرية والعدل والمساواة، إلا إذا تغير العالم كله! حلمت بالهرب إلى أمريكا اللاتينية والانضمام إلى ثوارها، لعل الشرارة تبدأ من هناك! وفي المرحلة الثانوية، حلمت بالانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية للمساهمة في تغيير الواقع العربي بداية من تحرير فلسطين! ولم تتح الفرصة.

وفي الجامعة، آمنت ان البداية من مصر، وصارت الإطاحة بتحالف الفساد والاستبداد، وانتزاع الحرية وحقوق الفقراء من بين أنياب الظالمين وناهبي الأقوات؛ الهدف الأسمى، حتى لو كنت مساهمتي مجرد ذرة في بناء العدل والحرية! وتعلمت، مع ابناء جيلي، من تاريخ المناضلين الآباء؛ إن مجرد المشاركة في دفع حركة التغيير خطوة واحدة للأمام، وتمهيد الطريق لجيل قادم، هدف نبيل يجعل للحياة معنى ومبررا؛ وليس مهما أن نجني بأنفسنا الثمار! كان معظمنا يتوقع ان تنتهي حياته بين جدران زنزانة، أو على حبل مشتقة بتهمة الخيانة؛ يلفقها نظام خائن وعميل، فقال محمود الشاذلي: \”لو علقولي مشنقة أو حتى مليون مشنقة.. حوالين رقبتي حافكها، وآخد حبالها والفها.. واصنع قلما، يكتب حروفا متشوقة لساعة خلاص\”.. ومع قسوة التهمة وظلمها وقبحها، لمن نذروا حياتهم نذرا من أجل قضية العدل والحرية، إلا أننا كنا مدركين أن هذا قدر المناضلين في كل زمان ومكان، وأن هذه التهم وغيرها وجهت لمن هم أفضل منا، وصدقها كثير من معاصريهم، حتى أثبت التاريخ صحة موقفهم، عندما تحررت شعوبهم وشهدت لهم بفضل تمهيد طريق الحرية والنصر الذي سار عليه الأبناء فوق رفاتهم!

كان الإيمان بالقضية وحتمية انتصارها، تهون معه التضحيات في سبيلها! وكان الحلم بوصلة توجه حياة المناضل، وتنظم حتى اختياراته الشخصية، بداية من الوظيفة التي يقبلها والتخصص الذي لا يتعارض مع قضيته، والمنطقة التي يسكن فيها، واختياره لشريك/ ة الحياة الذي يتحمل/تتحمل حياة تحفها احتمالات السجن، والتشريد من الوظيفة، وصولا إلى الإعدام! وربما كان هذا سبب أن معظم ابناء هذا الجيل كانوا يتفننون في اقتناص لحظات الفرح، ويعملون على إسعاد أسرهم بقدر ما يستطيعون، لإدراكهم على حد قول أحمد فؤاد نجم \”حد ضامن يمشي آمن، أو مآمن يمشي فين؟\”، وهو السبب أيضا في أن  تعبيرات مثل الاحباط، والياس، والاكتئاب.. لم تكن مفردات معتادة، رغم أنها مشاعر إنسانية ولحظات ضعف، من الطبيعي أن يمر بها أي منا ـ باعتبارنا بشرـ وعلى حد تعبير بيت الشعر الذي أعشقه للشاعر المناضل التركي ناظم حكمت \”وأنا، لا اخجل من أمر فؤادي.. من رؤيته مكدود الرأس ضعيفا وأنانيا.. أعني إنسانيا ببساطة\”.

باختصار، كان معظم أبناء جيلي موقنين بحتمية الثورة وانتشارها.. واشتد اليقين منذ انتفاضة يناير الشعبية 1977 التي شاهدنا فيها الملايين تملأ شوارع مصر من الإسكندرية إلى أسوان، تردد هتافاتنا التي كان يرددها شباب الحركة الطلابية من 1968 وكان أشهر من يصوغونها كمال خليل -الطالب بكلية الهندسة آنذاك، وظلت تتردد على ألسن المتظاهرين وحتى أثناء ثورة 2011 وإلى الآن- وبعد إجهاض الانتفاضة على أيدي القوات المسلحة، عادت الجماهير للكمون وتعرضت الحركة النضالية لحالة جذر كانت منطقية، بعدما القى نظام السادات القبض على معظم شباب المناضلين وشيوخهم أيضا. ومع انعدام وجود وسائل اتصال ـ لم يكن هناك سوى التليفون الأرضي في بيوت الأقلية الميسورة، وكان معطلا في أغلب الأحيان ـ وغياب قنوات تليفزيونية فضائية تنقل الحقيقة، فليس هناك سوى قناتين حكوميتين وثلاث صحف حكومية تردد جميعها أكاذيب النظام عن \”انتفاضة الحرامية\” باعتبارها مؤامرة يتزعمها العملاء الشيوعيون الممولون من الاتحاد السوفييتي وكوريا الشمالية وبلغاريا، لزعزعة الاستقرار وقلب نظام الحكم، وكان طبيعيا أن تثير الاتهامات مخاوف الجماهير التي عادت إلى قواعدها، قانعة بالاستقرار المزعوم، رغم تردي أوضاعها المعيشية وتفشي الفساد والنهب في حماية الاستبداد السياسي.

ومر أربعة وثلاثون سنة، رحل فيها كوكبة من أنبل الرفاق؛ متمسكين بالحلم حتى آخر لحظاتهم في الدنيا، لم يتنازلوا رغم الضغوط من تهديدات وإغراءات. ورضي أكثرهم بشظف العيش، رغم كفاءاتهم التي كانت تؤهلهم لتولي مناصب مرموقة، غير أنها تتعارض مع القضية التي وهبوا حياتهم من أجلها، أو ربما تعوق طريق النضال! ودفع الكثيرون أثمانا باهظة؛ سجونا وتعذيبا، وتهديدا للمستقبل الدراسي، وتشريدا ومطاردة في لقمة العيش وتكديرا لأسرهم، إلا أنهم ظلوا صامدين، من دون متاجرة بمواقف أو بطولات حقيقية تعلمنا منها وزادتنا إيمانا وإصرارا.

أما من بقوا منا، فمنهم من استصعب الاستمرار، واكتفى بهذا القدر من النضال والتضحيات، ولجأ إلى البحث عن حلول فردية، وتخلى عن حلم التغيير من أجل المجموع، فهاجر إلى الخارج يبني حياة جديده تؤمن مستقبل أبنائه وحدهم، لكن ذكريات النضال والحلم والفراق لم تفارق خياله! ومنهم من سئم التضحية بلا مقابل، واختار أن يبيع المبادئ والرفاق والقضية، بثمن بخس؛ منصب يضمن مركزا اجتماعيا وبعيدا عن  مخاطر الحلم، فالتحق بذيول النظام، وكره كل ما يذكره بماض كان نبيلا ومحترما.. ويخشى أن ينظر في عين رفيق قديم إذا التقاه مصادفة، فصار أكثر ذيول النظام شراسة في مواجهة رفاق الأمس.. يتمنى تلاشيهم جميعا حتى لا تواجهه أعينهم، بقذارة المستنقع الذي يتمرغ فيه.

وأبت نفوس رفاق آخرين، البحث عن حلول فردية، أو لم ينجحوا في ذلك، ولكنهم في نفس الوقت لم يتخلوا عن إيمانهم القائم على وعي وثقافة حقيقيين، وثقل عليهم مرور السنوات من دون بادرة انفراجة في الوضع توحي بأمل في التغيير. فوقع بعضهم في براثن المرض النفسي أو العضوي، لتنتهي حياة البعض إما انتحارا أو اكتئابا، ولكن يحسب لهم أنهم لم يتورطوا في بيع المبادئ والنفس!

وبقيت فئة رابعة ـ أزعم أنني منها ـ واثقة في حتمية التغيير وانتصار الثورة.. ونضوح ثمار حلم ورثناه من أجيال قبلنا، وحرصنا على توريثه لأبنائنا؛ فغرسنا في نفوسهم احترام الذات والكرامة، والإحساس بالآخرين.. وعلمناهم ألا حياة من دون حرية وكرامة! وتعلموا ألا تطيب لهم حياة يشقى فيها الآخرون وتسلب حقوقهم! أيقنا ـ أعني الفئة الرابعة من جيل السبعينيات ـ أن حياتنا لن تذهب هباء.. وأن جيلا ارضعناه مبادئ العدل والحرية والكرامة، لن يفرط في إرثه، فكنت، ضمن كثيرين توقعوا اقتراب موعد ثورة التغيير، منذ بدايات العقد الأخير من عمر المخلوع، وكتبت في 2001 أن المصريين لن يسمحوا بتوريثهم كقطعان الماشية، ولن تثمر محاولات التوريث، مهما حاولوا من سياسات إلهاء، وكنت أول من استخدم تعبير \”بص شوف العصفورة\”، تعبيرا عن الإلهاء السياسي!

ومع قيام حركة كفاية كتبت: \”لا للتوريث، ولا للتمديد، ولا الغائبة\”، بمعنى لا للتبعية لأمريكان أو غيرهم\”، واكتب من 2008: \”دولة الظلم ساعة، هانت باقي دقائق\”.. وحذرت ـ ضمن كثيرين من كتاب جيلي ـ \”احذروا غضبة المصريين\”، وفي منتصف 2010 كتبت \”في بيتنا أمل\”، أؤكد أن شيئا عظيما ستصنعه أيدي جيل ورث تراكم خبرات نضالية سبقته، وتسلح بإمكانيات منحته التكنولوجيا إياها، ولم تتيسر لجيلنا.

وفي 29 ديسمبر 2010 ـ ولم تكن انطلقت بعد الدعوة لـ 25 يناير ـ كتبت: \”كل ما تهل البشائر من يناير\”، أؤكد أنها قادمة! وكنت منذ 2005 أرد على كل من يتمنى موت الطاغية الذي كان يحكمنا، قائلة: \”ربنا يدي له العمر والصحة لغاية ما نشوفه في القفص\”.. كنت على يقين أنني سأراه يحاكم، فمثله لا يمكن أن يخرج من قصره مكرما بجنازة شعبية أو عسكرية. وفي الدقائق الأولى من أولى مظاهرات 25 يناير، قلت لمن حولي: \”الآن أستطيع أن أموت سغيدة، فقد شهدت بنفسي بداية تحقيق حلم، شاركنا فيه رفاق عظماء رحلوا مؤمنين بانتصاره، وكنت أكثر حظا منهم. فلا يهم أن أشهد بنفسي النهاية السعيدة، يكفي أن ينعم بها الابناء، فإن لم يتمكنوا فليتمتع الأحفاد بثمرات شاركنا في إنضاجها\”.

وبعد خمس سنوات، مازال اليقين قائما.. لكن المهلة المتبقية من العمر والقدرات الشخصية والصحية، ربما لا تسمح بمشاركة قوية.. لكن الإيمان بالحلم والحق ونبل القضية، يدعو إلى المواصلة قدر المستطاع! والبركة في الشباب. كل ما يعنيني أن أبقى ضمن الجموع المساندة والداعمة والواقفة في ظهورهم. ويبقى الحلم في التغيير ملاصقا لكل من آمن به!

وإن كان حلم المساهمة الشخصية تراجع عبر أكثر من أربعة عقود (منذ مرحلة الدراسة الإعداية) من تغيير العالم، إلى تغيير الوطن العربي، إلى تغيير مصر! فقد صار لدي حلم آخر بالتغيير. حلم شخصي يتعلق بتغيير العادات الغذائية.. ونجحت أن أتحول قبل عام إلى نباتية من النوع الاول (فيجيتريان) بمعنى الامتناع عن أكل اللحوم بأنواعها، لكنني مازلت أتناول الجبن البيضاء والبيض المسلوق والسمك أحيانا. امتنعت أيضا عن تناول السكر.. ومازلت أسعى للتحول إلى النوع الثاني (فيجان) بمعنى الامتناع تماما عن أي طعام حيواني، ثم الامتناع أيضا عن بقية السموم البيضاء ـالملح والدقيق الأبيضـ قبل أن أتم الستين عاما الأولى من عمري! يبدو أن هناك من لا يستطيعون التخلي عن حلم التغيير، حتى آخر لحظات العمر!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top