أسعد طه يكتب لـ زائد 18: حزب الله وأنا.. وقائع ما جرى

كنت قد بلغت حوالي الحادية عشرة عاما حين تسللت مع أبناء الجيران إلى حافة قناة السويس عند بورتوفيق الرائعة، أو التي كانت كذلك، لم يأبه الكبار إلينا ونحن نتسلل إلى هناك، ولم نأبه نحن إلا للعلم الكئيب مرفوعا على الضفة الأخرى، مشهد قصير جدا في ذاكرتي، لكنه محفور فيها لا يغادرها. عدنا منكسي الرؤوس إلى بيوتنا في شارع النهضة، كما كان يعود جنودنا المنسحبون كل يوم من سيناء لتنشغل السويس كلها بحكاياتهم. وما هي إلا أيام وبدأت طائرات الكيان الصهيوني في قصف بيوتنا ومشافينا وشوارعنا ولعبنا وحدائقنا وذكرياتنا، فأدركنا مع الكبار أننا بحق قد هزمنا فيما عُرف لاحقا -تجملا- بنكسة سبعة وستين من القرن الماضي.

الغريب أن كل ما شهدته لاحقا مما أحدثته الغارات الإسرائيلية، لم يترك أثرا كما تركه هذا العلم المغروس في أرضي، ثمة ثأر لا يهدأ.

رحلتي الأخرى إلى حيث العدو كانت محفوفة كذلك ببعض الخطر، تم تفتيشنا بدقة شديدة وتهذيب أشد، ثم ركبنا شاحنةً كبيرةً غُطّت نوافذها، فلم نعد ندرك ما حولنا سوى أننا نعلو ونهبط في ممرات متعرجة إلى أن توقفت الحافلة، ونزلنا منها. كان الطقس رائعا في ذلك الوقت من شهر أغسطس عام ثمانية وتسعين، وكانت الخضرة تملأ المكان، يزاحمها مقاتلو حزب الله، قال أحدهم \”هذه هي المفاجأة التي كنا نخبئها لك، نحن لم نسمح منذ شهور طويلة لأي صحفي بالوصول إلى الخطوط الأولى، أنتم اليوم استثناء\”، شكرته وقلت مازحا \”سأسجل ذلك إن عدت اليوم حيا\”، ارتدينا القمصان الواقية، وسرنا وراء دليلنا مسافة طويلة بين أشجار كثيفة، فيما طائرات الاستطلاع الإسرائيلية تواصل عملها الروتيني اليومي وتحلق فوق رؤوسنا، ودليلنا يطلب منا أن نكمل المسير وهو يعدنا بمفاجأة أكبر.

رغم أني لم أعمل يوما موظفا في قناة الجزيرة، لكني لا أزور بلدا إلا وأبلغ صحفي القناة هناك أو مدير مكتبها بأمر زيارتي، اتصلت بزميلتي (ميا بيضون) أخبرها أنني هنا في بيروت، وأن مهمتي هي إعداد حلقة ضمن برنامج \”نقطة ساخنة\” عن حزب الله، قالت لي مشكورة \”سأعد لك لقاء معهم\”، وفي الموعد المضروب مرتْ علي لنذهب معا، في الحقيقة كنت مترددا في أن أزور مقر الحزب بصحبتها، كدت أبلغها ألا تأتي، الصورة النمطية عن الجماعات الإسلامية في عالمنا العربي هو تحسسهم المبالغ فيه من التعامل مع المرأة، لكن عكس ذلك هو ما وجدته حين وصلنا مقر حزب الله، استقبال في غاية اللطف لها ولي، وعتاب رقيق لـ \”ميا\” عن غيابها عنهم أحيانا.

دار حديث طويل حول الهدف من الحلقة، شرحتُ وأسهبتُ، الناس تريد أن تعرف من هو حزب الله، ونحن نريد أن نريهم إياه، أن نعيش معه قليلا، أن نلمس في حكايتنا السياسي والإنساني، أن نرصد تجربة مواجهة العدو الصهيوني.

باغتني المسؤول وكأنه يختبرني \”إذن أنت ستعد حلقة تمتدح فيها حزب الله\”؟ نفيت دون تردد، واعتقدت أن هذا سيُفشل الأمر برمته، وزدتُ بقولي له إني سوف أستضيف خصوما لكم يتحدثون ويدلون برأيهم، ابتسم الرجل ووعدني أنه شخصيا سيزوّدني بأسماء بعض الخصوم

واصلنا المسير وراء دليلنا إلى أن وصلنا إلى أبي ذر، إمام يخطب في مجموعة من مقاتلي حزب الله تتهيأ للتسلل إلى وراء خطوط العدو ومهاجمته، صورنا الأمر برمته، وتابعنا المقاتلين إلى نقطة ما حيث تم إيقافنا وقيل لنا، هنا آخر ما يمكن أن تصلوا إليه، أما مقاتلونا فإنهم سوف يقضون عدة ساعات حتى ينجحوا -تسللا- في الوصول إلى هدفهم، ثم سنرى ماذا يمكن أن نفعل معا.

عدنا إلى الوراء، نزور بيوت المنطقة وأسر بعض الشهداء، ونرصد كيف تجري الحياة على خط النار هناك في الجنوب اللبناني، لم أكن أعبأ بأني مصري وأنهم لبنانيون، وأني سني وهم شيعة، كنت أمارس مهامي المهنية، ومنها أن أنقل للمشاهد ما أرى كما أراه، لم يكن لدي حكم مسبق، ولا موقف مسبق، لكن إعجابي كان يزداد كل يوم بما أشاهده وأعايشه، تنظيم دقيق إلى أعلى درجة، انضباط شديد، تفانٍ في العمل، عطاء يومي لا ينقطع، خبر نقرأه سطورا قليلة في الجرائد عن عملية قام بها حزب الله وراء خطوط العدو، ولا نعرف كم من جهد بُذل لأجل ذلك.

حينها كانت بندقية حزب الله تتجه في دقة شديدة إلى صدر العدو، وكان ذلك يفرحني، كما أفرحني عندما قال لي دليلنا، حان الموعد الآن، سنذهب سويا إلى منطقة مرتفعة سترون منها موقعا للعدو تتهيأ الوحدة العسكرية التي رأيتموها وصورتموها لمهاجمته، مشينا وراءه مسرعين، وصلنا إلى حيث أراد، قال بإمكانكم التحرك في هذه المسافة، ثم أشار إلى الجهة الأخرى وقال لنا \”ثبتوا عدساتكم في هذا الاتجاه، هذه الثكنة سوف تتعرض بعد دقائق لقصف رجالنا\”، كان نفس العلم القبيح مرفوعا مغروسا في أرض عربية، ضاق صدري إلى أن تفجرت القذائف في اتجاه الثكنة الإسرائيلية، كنا نسمع صوت صياحهم، العلم انتكس، وصدري أثلج، وعشت وقتا من أسعد أوقاتي، أما قلت لكم ثمة ثأر لا يهدأ.

بعد ذلك وفي الموعد المحدد أيضا تمت إجراءات التفتيش كما هو المعتاد، صودرت هواتفنا، كل ما أعرفه أننا في الضاحية الجنوبية، ومنذ أن دخلنا البناية لا تسألني عن تفصيل، تم إستضافتنا في غرفة وقيل لنا هنا سيكون اللقاء، جهزوا أنفسكم، بقينا بعض الوقت إلى أن دخل الرجل، هذا هو إذن الذي يقولون إنه السيد، تبادلنا التحايا، ودارت الكاميرا، ودار معها الحوار، لاحقا قال الرجل لمجموعة من الصحفيين إن أفضل عمل أنتج عن حزب الله كان لهذا الصحفي المصري.

قال لي زميلي بعد أن أتممنا تصوير الحلقة بكاملها وبعد أن انتهيت من كتابة النص، لم تكن بهذا الحماس لهذا الموضوع حين بدأنا التصوير، قلت له: نعم، لم يكن لي موقف سلبا أو إيجابا، سوى أن هناك خط تماس بيننا، ألا وهو العدو المشترك لكلانا، الموقف يحدد ملامحه ما أراه وما أسمعه وما أقرأه، وقد كنت مقتنعا بكل حرف كتبته وقلته.

اقرأْ ما يعده الباحث جيدا، ثم اقرأ أنت من مصادرك المختلفة وبطريقتك الخاصة، ثم دقق، ثم فكر، ثم أعد أسئلتك، شمر عن ساعديك وانزل إلى الأرض، الكتابة التي تضمها المكتبات وشاشات الكومبيوتر منزوعة الدسم، منزوعة الأحاسيس، الأرض وحدها يا صديقي تحدد الموقف، هكذا أحدث نفسي قبل كل عمل.

كنت -كعادتي- وقت بث البرنامج مضطربا للغاية، أرقب الساعة لأعرف متى ينتهي بث الحلقة، أبو جاسم مدير القناة أبلغني قبل بثها أنهم تلقوا أكبر عدد من الإعلانات حتى إن الوقت لا يسعها، الناس تريد أن تعرف من هو حزب الله، كورنيش بيروت مكتظ كالعادة، اتصال من الزميل (علي حلني) في مقديشو يبدي إعجابه بختام الحلقة، \”الانحناء أمام العدو لا يكون إلا لزرع القنبلة\”.

عدت مرة أخرى إلى لبنان ومن ثم إلى الجنوب، علمت أن أبا ذر الذي صورناه في ذاك اليوم يعظ المقاتلين، أصر أن يخوض معركة بنفسه، قال لهم إن الإمام لا يجب أن يتقدم الناس فقط في الصلاة وإنما في الحرب أيضا، ولما  تم الإعلان عن انسحاب إسرائيل ذهب إلى الخط الفاصل حزينا أن المعركة قد انتهت دون أن يشارك، لكن  رصاص قوات العدو أصابته وهي تنسحب، وكانت أحد أفلام  \”يحكى أن\”.

اعترفْ.. هل أنت الآن نادم على ما فعلت؟

عندما بدأت الأخبار تتواتر، قلت لا، ثمة خطأ ما، كيف للذي حارب العدو أن يحارب الشقيق، كيف يضل الطريق، إنه نفس منطق داعش، علينا أن ننتهي من المنافقين حتى نفرغ للعدو الصهيوني، والمنافقون في قواميسهم هم أولئك الذين يختلفون عنهم، كنت ومازلت أسأل نفسي، كيف يتوضؤون ثم يغرسون الرصاصة في قلوب الأبرياء؟ كيف يصلون ويرفعون أكفهم إلى الله، وهم يدعمون رجلا يحرق شعبه ببراميله؟

اعترفْ.. هل أنت الآن نادم على ما فعلت؟

الكتابة هي ربما البضاعة الوحيدة التي لا يستطيع بائعها منح المشتري صك ضمان، الكاتب يكتب \”اليوم\” كما يراه الآن ، وليس كما سيكون في المستقبل، وكذا يفعل صانع الفيلم الوثائقي، الاثنان يصوبان عدستيهما وحروفهما نحو الهدف بدقة، والمحترف الأمين هو الذي يحرص ألا تنحرف عدته كما انحرفت بندقية حزب الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top