لم أكن أظن أنني \”ذات يوم\” سوف أشعر بالألفة مع حروف غير الأبجدية، أرقام لا اسم لها ولا فعل؛ لا مبتدأ لها ولا خبر.. مجرد أرقام على حواف الزمن، كنت أتعامل معها حتى وقت قريب على أنها التيه الكبير الذي يصعد بي ويهبط في صحراء التأريخ وغبارها، ما يُصّعب عليْ الأمور؛ فلم أنسجم أبداً مع أرقام تخون ذاكرتي ولا تشبع لدي أي قناعة بضرورة معرفة التفاصيل كي أتعلم العبارات \”الكليشيه\” من نوع \” التاريخ يعيد نفسه\” فنأخذ منه ما يشبه الحاضر، أو في تصور آخر \”الإنسان لا ينزل النهر مرتين\” فلا نتلفت على حوادث تخل بالتوازن، أو بشيء من التفاؤل \”أحداث الماضي تنير لنا الحاضر\”، وآمنت دائماً بأن هذه الأرقام مجرد أنصاب باردة كالرخام لا تكتب وصايا عن الماضي، وإنما تخرج كنداء الأودية السحيقة وتؤرخ لجراح أكبر من الأفراح، وظل سؤال التاريخ بالنسبة لي مجرد تنويه عن كذبة كبيرة على طريقة محمود درويش:\”لا تسأل أستاذ التاريخ. لقمة عيشه يأخذها من الأكاذيب\”، وإن كان درويش له منطقه الخاص حول مصير شعبه الذي تشتت بعد ما سُرق وطنه بناء على كذبة تاريخية كبيرة ومكررة عنوانها \”أرض الخلاص والميعاد\”، فيما خشيت أنا من الأرقام والتواريخ حين حاولت أن أقفز عن جدرانها المثقوبة بمرثيات لم تفعل سوى أن تحصي حياة غاصت في عمق الهاوية.
لكن يبدو أن للأرقام حكمة لا يدركها إلا من أبصرها، ولعل هذا ما أدركه الكاتب الصحفي سعيد الشحات في كتابه \”ذات يوم.. يوميات ألف عام وأكثر\”، الجزء الأول والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، تجربته المميزة حين حدّق في هذه الأرقام والتقط منها بعين ذكية صوراً ومشاهداً ترمم الحكايات وتمد جسور المعرفة بإشارات توقظ الماضي ليس على طريقة أوسكار وايلد \”من المضحك حقاً أن هذه الأيام التعيسة التي نحياها سوف تصير في المستقبل أيام الماضي الجميلة\”، أي أن كل شيء يمر يصبح سهلاً وجميلاً ويبقى الحنين الجارف للماضي، وإنما في محاولة تنقلنا إلى ضفاف أخرى تسطع فيها الأحداث المنتقاة وينفتح فيها الخيال على مصادر قد تُصوّب المعنى وتُرتِب الذكرى، ثمة حاجة غلاّبة في هذا الكتاب، لإدراك المدهش وغير المألوف الذي يكسر التوقعات ويبعث على التوغل للحصول على المزيد من المعلومات التي تراوغ الأرقام وتضع النقاط على الحروف، وربما هذا ما عبر عنه الكاتب في مقدمة الكتاب:\” لا يستطيع الإنسان أن يعرف التاريخ إلا إذا قرأ، ولا يستطيع الحكم على حاضره إلا إذا عرف قصته من بدايتها، والبداية تعني الماضي، والماضي قصة ممتدة صنعها أشخاص\”. يخبرنا سعيد الشحات بأن بعض هؤلاء الأشخاص عاشوا في الظل ورحلوا دون أن نعرف عنهم ما فيه الكفاية، وبعضهم وقف على المسرح يقدم دوره على مرأى من الجميع؛ والحصيلة هي حكايات دوّنها التاريخ، وينبهنا أن هذا التدوين قد يكون خضع لأهواء ما، ثم يعود ليؤكد لنا أن \”مصر بلد لا يموت التاريخ فيه\” كما قال له الأديب الكبير بهاء طاهر في أحد لقاءاتهما. وفي غضون ذلك لم يشغل الكاتب باله بترتيب التاريخ حسب تسلسل تقليدي لسرد الأحداث، لكنه دوّن اليوميات كما لو أن للتاريخ تجليه الحر في إنسانيته أحياناً، ما يحرك الحس ويترك أثره العاطفي؛ وهو ما بدأه الكاتب بإهدائه اللافت الذي بدا كأنه ينقذه شخصياً من الوقوف عند حدود الزمان ليعبر به إلى المكان الذي ينثر سجيته وحضوره منذ البداية:\”إلى قريتي.. كوم الأطرون، طوخ، قليوبية، التي تلقيت بها أول حصة في التاريخ\”.
بأسلوب سلس يستعرض الكاتب 365 حدثاً لا ترصد الأحوال والوقائع وإنما ينقب من خلالها عما وصفه بالمسكوت عنه ويتوغل في دراميته ويقصه كحدوتة وهو ما يليق بعنوانه \”ذات يوم\” على طريقة \”كان يا ما كان\”، وبدا جهده الواضح في انتقاء الأحداث والبحث والاستعانة بالمراجع والشهادات، ويفتتح كتابه بالأول من يناير 1956، تاريخ استقلال السودان عن مصر، ثم يتلوه في سرد غير متوقع بيوم 2 يناير 1942 بقصة سقوط الأندلس، وتتوالى الأيام بأحداث متنوعة يمتزج فيها الإنساني والسياسي كما في يوم السادس من يناير عام 1986 وموت سليمان خاطر في السجن بعد قتله وإصابة 7 جنود اسرائيليين، وعناوين لافتة كما في 11 يناير عام 1990 يوم وفاة إحسان عبد القدوس الذي كافأته أمه برئاسة تحرير وسيجارة، ورحيل عبد الرحمن منيف المعلق بين السماء والأرض في 24 يناير عام 2004، وحكايات حول الجريمة البشعة لاستشهاد 30 طفلاً في غارة جوية اسرائيلية على مدرسة البحر البقر في 8 أبريل 1970، وتمتد لأحداث مفجعة أخرى مثل إعدام الفلاحين في دنشواي وحريق القاهرة، وتمتد لأحداث عربية مثل دير ياسين وعالمية مثلة هيروشيما، وتتوازى الحكايات على تنوعها وزمانها من هارون الرشيد إلى طومان باى وعبد الكريم قاسم والأسرة العلوية، وحكايات أخرى حول شخصيات مؤثرة في المجتمع المصري مثل طلعت حرب، أمل دنقل، بليغ حمدي، الشيخ إمام، محمود مختار، عبدالمنعم رياض، عاطف الطيب وغيرهم، لتنتهي اليوميات في 31 ديسمبر 1968 بـ\”أم كلثوم تُسَوْدِن أغانيها\” وقصة غناء كوكب الشرق خلال جولتها لصالح المجهود الحربي بعد نكسة 1967، الأطلال وهذه ليلتي وفات الميعاد في الخرطوم وأم درمان بأسلوب غير مسبوق في غنائها، حسب توصيف يوسف الشريف في كتابه \”السودان وأهل السودان\”، وبتلك القصة يختتم سعيد الشحات الجزء الأول من كتابه الذي جاء كسرد ممتع لتواريخ صنعت أمجاداً ورسمت أحلاماً وعبرت كوارث كسرت خرافة أن الماضي دائماً أجمل.