بيشوي القمص يكتب: كشرى وصاية

منهكاً جائعاً لمحته من بعيد يقف شامخاً، يتحدى الزمن بأدواره الأربعة المكدسة طوال الوقت، سرت نحو قصر أبو طارق للكشري ومشتقاته مغمض العينين، فبالرغم من أنني لست من عشاق الكشري ولا مريديه، لكن لعلمي المسبق أنني إن وصلت المنزل لن أجد طعاما ساخنا، ولن أقوى على إعداده، هذا إن وصلت أصلا و لم اسقط صريع الإجهاد والتعب والجوع ، لذا فإن أي وجبة تصبح شهية بعد ثمانية عشر ساعة من العمل المتواصل كنائب نساء وتوليد بمستشفى الجلاء للولادة، خصوصا إن كان سعر الوجبة يتناسب مع الراتب الهزيل الذى تمنحه إيانا وزارة الصحة.

لحسن حظى كان المكان شبه خاو في تلك الساعة المبكرة من النهار، فاخترت طاولة متطرفة بعيدا عن الصداع، ولتجنب الدخول في مناقشات سياسة غبية مع أي جار محتمل على أي منضدة مجاورة، وطلبت طبق كشرى وسط وانتظرت، في تلك اللحظة تحديدا ظهر أمين شرطة بزيه الرسمي وهيئته المعتادة ، في الأربعينيات من عمره، أصلع وشاربه منتظم، مبعثرا عرقه في كل مكان، وكرشه متهدل أمامه كسيدة حامل في شهرها الرابع، كان باختصار صورة طبق الأصل من حاتم أمين الشرطة بطل فيلم \”هي فوضى\”، وياللدهشة، ترك حاتم كل الطاولات الفارغة، واقترب منى ليجلس معي على نفس الطاولة تحديدا، بدون سبب مفهوم ، بحركة لا إرادية قبضت على هاتفي الخلوي وحافظة نقودي، وأعدتهم إلى مكانهم الطبيعي داخل جيوبي، لاحظ فعلتي، فابتسم قائلاً \”سامو عليكو.. محسوبك حازم.. أمين شرطة في قسم قصر النيل\”، تمتمت في سرى \”يا محاسن الصدف\”.

محاولا عدم إظهار تقززي من رائحة عرقه، بادلته التحية، قبل أن يطلب لنفسه بلهجة آمرة طاجن مكرونة بالكبدة كبير وطبق أرز بلبن وزجاجة مياه غازية، وجاءت طلباتنا سويا بعد أقل من دقيقتين، نظرت للنادل نظرة عتاب يعلم معناها جيدا، فبادلني بنظرة انكسار.

بفم ممتلئ حتى آخره بالمكرونة والكبدة، تحدث حازم: \”أنا معايا رز بلبن لو عايز تحلى بعد الأكل.. إحنا إخوات وطبقنا واحد يعنى\”، قهرت نفسى كي لا أمسح قذائف المكرونة المختلطة باللعاب التي انهمرت كرصاص قناصة الداخلية من بين فكيه قائلا: \”شكراً.. أنا كده زي الفل وتمام.. أشكرك\”، بسماجة متوقعة وإلحاح غريب ولهجة آمرة: \”من غير كسوف يا أستاذ..عايزك تحلى مد أيدك\”، أجبته وقد بلغ الصبر مداه: \”أشكرك.. مش عايز فعلاً\”، أجابني مستدعيا رقة ولطفا لا يملكهما: \”إحنا مش كلنا وحشين على فكرة، فيه ناس مننا معندهاش ضمير ولا رحمة، زينا زي أي شغلانة تانى في الدنيا، منهم لله مبوظين سمعتنا ولاد الوسخة، لكن والله معظمنا ناس زي الفل وولاد ناس وبنتقي ربنا في شغلنا\”، اجبته بتودد مصطنع: \”طبعا طبعاً\”.

للوهلة الأولى لم أصدقه بالطبع، خصوصا في ظل الأزمة الحالية التي نشبت بين وزارة الداخلية ونقابة الأطباء بقيادة د. حسين خيرى، إثر اعتداء أميني شرطة على طبيبين زميلين في مستشفى المطرية، وتزويرهم لتقرير طبى يفيد أن الطبيب هو الذى بادر بالاعتداء عليهما، إلا أن قوته في الاقناع، وربما لهجته الآمرة كانت أقوى منى، ففكرت للحظة في قرارة نفسى، أنه ربما يكون على حق، ربما يكون هو أمين الشرطة الوحيد الذى أقابله في حياتى ويسعى جاهدا لإظهار اللطف والود.

أنهى الطاجن وطبق الرز باللبن بسرعة، بينما لازلت أنا في منتصف طبقي، ثم تبعهما بزجاجة المياه الغازية دفعة واحدة، قبل أن يتجشأ بقوة خمسة ريختر، وحيانى بفمه الذى لا يزال يلوك بعض الطعام وبفكين علاهما الإصفرار بفعل السجائر، قبل أن يتجه نحو الكاشير ويتمتم معه بكلمات غير مسموعة، ثم يلقى نظرة أخيرة نحوى ويحيني ثانية بصوت عال وينصرف إلى حال سبيله، نظرت إليه من النافذة، بينما كان يهم بركوب موتوسيكله بكل وداعة، واعتراني لوهلة هاجس أن بعض أمناء الشرطة ربما كانوا صالحين، حتى لو لم يكونوا صالحين بالمعنى المفهوم، ولا يزالوا أفظاظ الألسن، لكنهم على الأقل ودودون مع الشعب، أنهيت طبقي واتجهت نحو الكاشير.

– حسابك كام يا ريس؟

– طبق كشرى وسط، وطاجن مكرونة بالكبدة كبير، وطبق رز بلبن كبير، وواحد كانز.. كله تلاتين يا أستاااذ.

– لا حضرتك.. أنا طبق كشرى وسط بس.

– بس الأمين قال إن الحساب كله عندك.

لعنت الكاشير والكشري وأمين الشرطة وعقلي الغبي الذى ظن لحظة أن هؤلاء يمكن أن يخرج منهم أي شخص صالح، ثم أخرجت شخصية البلطجي الذى يحتفظ بها كل أطباء المستشفيات الحكومية لاستخدامها وقت الضرورة من داخلي، حتى أقنعت الكاشير أن الامين قد نصب عليه هو وحده، وأنى لن أتحمل ولا حساب الأمين ولا غباء الكاشير.

خرجت مسرعا بينما ارتفع ضغطي إلى أقصاه، لمحت صورة متهالكة لأحدهم يرتدى الطربوش، معلقة بإهمال في محل الدراجات الهوائية المقابل لأبو طارق، اقتربت من الصورة، فاتضحت معالمها، كانت لطيب الذكر سعد باشا زغلول، تذكرت كلماته الخالدة \”مفيش فايدة\”، ثم مضيت في حال سبيلي.

بتصرف عن قصة حقيقية كتبها Mohamed Salah Mohamed على حسابه الشخصي على الفيسبوك: https://www.facebook.com/mohamedsalahzayed

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top