د. علاء عوض يكتب: القضاء على فيروس سي.. هل حقا اقترب الحلم؟

خلال مسيرتى المهنية، التى امتدت لأكثر من ثلاثين عاما، كانت لفيروس سي مساحة ضخمة من التواجد، فمنذ اكتشاف هذا الفيروس فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى، فوجئنا بهذا المعدل الكارثى لانتشار المرض داخل مصر. كنت أرى يوميا أكباد المصريين المنهكة من وطأة المرض، وعشت مع مرضاى آلاف القصص المأساوية والتجارب المريرة، بل إننى -شخصيا- لم أسلم من هذا الفيروس اللعين الذى اختطف منى -عنوة وغدرا- العديد من أصدقائى القريبين، الذين عجزت عن إنقاذهم، ووقفت أمام آلامهم وعذاباتهم لا أملك أن أقدم لهم شيئا.. اعترف أننى أكره هذا الفيروس بشدة، ليس فقط على المستوى الأكاديمي والمهنى، بل أيضا، وربما بدرجة أعمق، على المستوى الإنسانى.

عاصرت المراحل المختلفة لعلاج هذا المرض، بدءا من العلاجات المبكرة التى لم تتجاوز نسب الشفاء فيها 10%، مرورا بأدوية أحدث نسبيا وصلت فيها نسب الشفاء إلى 50%. فى كل هذه الحالات كنت دائما أشعر بالعجز أمام نسب الشفاء المنخفضة، والتكلفة الباهظة للعلاج، وكثرة أعراضه الجانبية، والفترة الطويلة اللازمة للعلاج بالإضافة إلى انحسار فرص استخدام هذه الأدوية داخل قطاع محدود من المرضى، وغياب أى فرص للشفاء لباقى المرضى، وما أقسى الإحساس بالعجز فى مواجهة هذا العدو الغادر.

فى السنوات الأخيرة، استطاع العلم التوصل إلى جيل جديد من الأدوية تستطيع القضاء على هذا الفيروس وتحقيق نسب شفاء تتجاوز الـ 90%، وبدرجة عالية من الأمان، مما فتح بابا جديدا للأمل فى القضاء على هذا المرض، والحقيقة أننى لا أستطيع أن أخفي سعادتى بذلك، فلقد أتيحت لى الفرصة لمعاصرة معركة القضاء عليه، بل والمشاركة فيها، وأنا على وشك إنهاء حياتى المهنية، ودعونى اعتبر هذه الاكتشافات العلمية الرائعة، هى بمثابة مكافأة نهاية الخدمة.

لكن يبقى السؤال الأهم فى هذا السياق، هل مجرد وجود هذه الأدوية، هو العنصر الوحيد المطلوب للقضاء على هذا المرض؟ لا أتصور أن الاجابة ستكون بنعم، فالأمر أكثر تعقيدا وتشابكا.. إن بناء خطط وسياسات صحية باتجاه إستراتيجية القضاء على المرض فى مصر، يتطلب رؤية متكاملة تتعامل مع المحاور الهامة ذات الأثر فى حجم الأزمة، وطرح الوسائل العلمية لتجاوزها.

هذه الخطط والسياسات ليست فقط شأنا للأكاديميين والمتخصصين، ولكنها تمتد إلى قطاعات مجتمعية أوسع فى صياغاتها ومتابعتها وبناء آليات تحقيقها، وفى حدود تصورى، أطرح بعضا من هذه المحاور كبداية لحوار مجتمعى أشمل:

أولا: هناك اتفاق عام أن مصر تحتل المرتبة الأولى عالميا فى معدل انتشار هذا المرض، إلا أن تقديرات عدد المرضى فى مصر مازالت متضاربة وغير معلومة على وجه اليقين.. هناك من وصل بمعدل إصابة يصل إلى 22%، كما ورد فى تقرير لمنظمة الصحة العالمية، وهناك من يراه أقل من ذلك بكثير -كما ورد فى تقارير وزارة الصحة المصرية- على أى حال، هناك اتفاق على وجود ملايين من المرضى، نختلف فى عددهم، على أرض مصر مصابون بهذا الفيروس. ورغم ذلك، فإن عدد المتقدمين لطلب العلاج من هذا المرض كان أكثر بقليل من مليون مريض، مما يعنى، بالضرورة، وجود ملايين من المرضى فى هذا البلد يجهلون حقيقة مرضهم، وبالتالي محرومون من فرصة العلاج والشفاء، وأيضا يسهمون بشكل يومى فى نقل العدوى إلى أفراد آخرين من أبناء هذا الشعب.

أى دارس لعلوم الصحة العامة، يدرك أنه من الخطوات الأساسية فى مكافحة أى حالة وبائية مزمنة، اكتشاف المرضى وعلاجهم علاجا جمعيا، لأن ذلك ببساطة سيؤدى إلى تقليص حجم الوعاء البشرى الحامل للعدوى، والذى هو أهم مصادر نقل العدوى داخل المجتمع، وبالتالي، فإن أى مشروع لعلاج المرضى، لا يسير معه بالتوازى، مشروع مسح صحى شامل لاكتشاف المرضى وعلاجهم، تبقى قيمته المضافة محدودة للغاية، لأن العبء المرضى سيظل ثابتا، إن لم يتزايد، بدخول حالات جديدة دائما، ومن الثابت علميا أن العبء المرضى لفيروس سي فى مصر يزداد بمعدل من 165 إلى 200 ألف حالة سنويا.. نحن اذن بحاجة إلى إجراء هذا المسح فورا، ولا أمل فى القضاء على هذا المرض بدونه.

ثانيا: إتاحة الدواء لجميع المرضى على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية والعمرية والجندرية والجغرافية، هو من الشروط الأساسية للوصول إلى هذه الاستراتيجية، والواقع أن أحد الانتصارات الهامة فى هذا السياق هو عدم حصول هذه الأدوية على حق الملكية الفكرية داخل مصر، مما سمح بتصنيعها محليا على نطاق واسع وطرحها فى الأسواق بأسعار أقل بكثير جدا من أسعارها العالمية، وساهمت المنافسة بين الشركات فى تنشيط ماراثون التخفيضات إلى حد ما.

غير أن هذه الأسعار مازالت خارج نطاق القدرة الشرائية لغالبية المرضى، كما أنها مازالت تشكل عبئا اقتصاديا على وزارة الصحة وهيئة التأمين الصحى، مما أدى إلى قوائم انتظار طويلة من المرضى الباحثين عن العلاج.

كتبت كثيرا من قبل عن ضرورة تصدى الدولة لهذه المهمة من خلال تصنيع هذه الأدوية فى شركات قطاع الأعمال العام وتسعيرها بهامش ربح معقول. والواقع أننى لديّ شبه يقين أن هذه الأدوية ممكن أن تصل أسعارها إلى حوالى 10% من الأسعار المتداولة حاليا فى السوق المصرى إذا ما قررت الدولة لعب هذا الدور.

لن يمكننا الانتصار فى معركة القضاء على فيروس سي إلا حينما نرى هذه الأدوية فى جميع المستشفيات والصيدليات والوحدات الصحية فى الريف، وحينما يستطيع جميع المرضى الحصول عليها دون معاناة ودون أن يحرم أى منهم من حقه فى العلاج.

ثالثا: لا يمكن تصور أى استراتيجية للقضاء على هذا الفيروس لا تتضمن خططا واضحة للتصدي لقنوات نقل العدوى. ويمكننا بشكل عام تصنيف هذه القنوات فى مساحتين، الأولى هى قنوات نقل العدوى داخل المجتمع، وهى المعنية بانتقال العدوى من المريض إلى مخالطيه من خلال الاستخدام المشترك للأدوات القاطعة داخل المنازل أو فى صالونات الحلاقة أو محلات الوشم أو غيرها من الأماكن. والحقيقة أن إسهام هذه القنوات فى نقل العدوى يتقلص يوما بعد يوم نتيجة لوجود درجة معقولة من الإدراك العام لوسائل نقل العدوى، خلقتها حالة الفزع من هذا المرض الذى انتشر بشكل واسع فى مصر. أما الثانية، فهو قنوات نقل العدوى داخل المستشفيات، وهى الأهم فى الوقت الراهن، وهى التى تلعب الدور الأكبر فى نقل العدوى.

بالقطع هناك العديد من العناصر فى هذا السياق مثل اختبارات نقل الدم وتعقيم الآلات الجراحية فى المستوصفات وعيادات الأسنان، لكن اسمحوا لى أن أتناول جانبا غالبا ما يتم تجاهله عمدا فى هذه القضية، وهى الاستخدام المتكرر للمستلزمات الطبية التى صنعت للاستخدام لمرة واحدة، وغير قابلة للتعقيم بالوسائل التقليدية، مثل قساطر القلب ومستلزمات المناظير.. هذه الأدوات باهظة الثمن، أصبحت تلعب أدوارا هامة فى تشخيص وعلاج العديد من الأمراض فى العقدين الأخيرين نتيجة التطورات التكنولوجية الهائلة فى هذا المجال، وبالطبع لا يمكن الحديث عن حرمان مرضانا من هذه التكنولوجيا، ولكن أيضا تعريضهم للإصابة بفيروس سي، أو غيره من الأمراض التى تنتقل عن طريق الدم، كثمن للانتفاع بالتكنولوجيا، هو أمر غير مشروع على المستوى المهنى والإنسانى والأخلاقى والقانونى.

ويبقى الطرح القديم ببناء صناعة إعادة تدوير لهذه الأدوات بعد تعقيمها ببروتوكولات تم اختبارها واعتمادها علميا، بدلا من الإجراءات الاجتهادية غير العلمية السائدة الآن، واعادة تعبئتها، وتحديد حد أقصى لاستخدامها، هو البديل الوحيد الآمن الذى يسمح بحصول المرضى على هذه التقنيات بأسعار معتدلة وبدرجة عالية جدا من الأمان.. لا يمكن أن نستمر فى سلوك النعام، ونحن نتعامل مع هذه القضية، نخبئ رؤوسنا فى الرمال، ونتجاهل الأمر برمته ونعتبر أن الحديث عنه أمر مشين.. المشين هو الصمت عن هذه الحالة عالية الدرجة من الخطورة، الحالة التى لا يتحمل المريض فيها أى مسئولية عن إصابته بالعدوى.. كم من المرضى توجهوا إلى المستشفيات يعانون من أزمات قلبية، وخرجوا من غرفة القسطرة وهم مصابون بفيروس سي؟ قضية تستدعى التوقف والانتباه الشديد.

رابعا: معركة القضاء على فيروس سي قضية تخص المجتمع بأسره، وليست حكرا على الأطباء والمتخصصين، وبالتأكيد فإن أكثر قطاعات المجتمع، التى تعنيها هذه القضية، هم المرضى أنفسهم، ولا يمكننا أبدا الحديث عن أى خطط وسياسات صحية بهذا الخصوص فى غياب المرضى، الذين يجب أن يكونوا ممثلين فى كل خطوة على طريق هذه الاستراتيجية، من خلال جمعيات حقوق المرضى وروابطهم التى يشكلونها بأنفسهم ويصيغون من خلالها احتياجاتهم ومقترحاتهم ويمارسون أدوار الرقابة والمتابعة على كل أشكال تقديم الخدمة.

هذا الدور مازال غائبا فى مجتمعنا، وهذه الجمعيات والروابط لم تر النور بعد، ومازالت فى مرحلة الفكرة، والوصول بها إلى مرحلة التحقق والفعل هو من المهمات الرئيسية فى بناء أى سياسات أو نظم صحية.

فى النهاية، كنت دائما، ومازلت، أقول إن السياسات بكل أنواعها هى ترجمة لانحيازات اجتماعية.. إن تحقيق هذه الخطط يتطلب إرادة سياسية منحازة لملايين المرضى، الذين يشكل فقراء هذا الوطن غالبيتهم الساحقة، فهل لدينا دولة لديها إرادة سياسية منحازة للفقراء؟ إجابة هذا السؤال هى مفتاح القضية برمتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top