في الظروف غير التقليديّة، لا تليق المقدّمات التقليديّة المعتادة لتقديم الأمر محل الجدل. بل لا يليق الجدل حول البديهيّات التي حسمتها أمم وشعوب منذ أكثر من 500 عاما، اكتسب فيهم الجنس البشري خبرات متراكمة، ووضع فيها الإنسان حجرا فوق حجرٍ في تشييد الصرح الإنساني المُسمَّى بالحضارة.
لذلك ففي الظرف الحالي لا يليق بنا أن نبدأ كلامنا بعبارة قائلة: \”قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير ضد حسني مبارك ومنظومته الحاكمة بعد سنوات من تقييد الحريّات والفساد المالي والجريمة الحكومية المنظّمة\”، تلك العبارة التي أصبحنا نستخدمها يومياً في تفنيد الردّة العجيبة التي نشعر بها على مستوى الحريّات العامة وحريّة الإبداع والفكر وإبداء الرأي.
ومن المعروف أن كُل السلطويات مهما كانت توجّهاتها وأيدولوجيّاتها، فإنها دائما ما تجنح إلى استخدام الأخلاق والأعراف كأداة لمخاطبة الجموع وفرض سيطرة وهميّة من خلال قضبان هلاميّة تُسمّى \”الأخلاق\”. كلمة ذات معانٍ مطاطة يستخدمها من يفتقدها قبل من يتحلّى بها، من أجل أهداف عدّة، ربما يأتي على رأسها نَيل التصفيق وتسوّل التصديق الأعمى من كل مَن سجن نفسه في ذلك السجن الشفّاف.
حكمت المحكمة في يوم 20 فبراير من عام 2016 على الروائي والصحفي \”أحمد ناجي\” بالحبس سنتين مع غرامة تقدّر بعشرة آلاف جنيهاً، وذلك بتهمة \”خدش الحياء العام\”، تلك التهمة التي تذكّرنا بالعبارات الساخرة في أفلام المرحوم العبقري \”رأفت الميهي\” أحد رواد مدرسة العبث والسخريّة الفجّة في تاريخ السينما المصريّة.
تُهمة \”خدش الحياء العام\” تلك بمجرد وقعها على أذن أحد لا يسعه إلا أن يتخيّل جحافل بشريّة واقفة في صفّين تاركين ممرّا ضيّقا يمرّ فيه المتهم، بينما يضع الناس أياديهم فوق أعينهم محرّكين وجوههم يمينا ويسارا في انهيار تام، وتنهمر الدموع أنهارا من فرط الخجل لتملأ الممر الضيّق ويغرق المتّهم في دموع الجَمع الغفير المقصود بعبارة \”العام\” المذكورة في نَص الاتهام.
ورجوعا إلى المقدّمة التقليديّة عن قيام الشعب بالتحرّك في يناير 2011 ضد مُبارك وقمعه الحقيقي للحريّات وفسادة كلِصّ في مجال الاقتصاد، وكذلك أيضا تحرّك الشعب المصري ضد نظام محمد مرسي وجماعة الإخوان وقمعه أيضاً للحريات، بالإضافة إلى استمرارهم على نهج مبارك الاقتصادي، ولكن بوجوه أقل حرفيّة وأكثر تبجّحا، وختاماً كي نحافظ على \”هويّتنا المصريّة\”، فأين هي هويّتنا إذا ونحن بصدد محاكمة شخص على رواية كتبها، أهي ذات الهويّة التي ظهر في ظلالها نجيب محفوظ وطه حسين ويوسف إدريس؟ أهي ذات الهويّة التي قدّمت يوسف شاهين وعاطف الطيّب؟ بالتأكيد إن هؤلاء يدافعون عن هويّة أخرى غير تلك، هويّة مدفوعة الأجر من بلاد أخرى يمكنها شراء الذمم والأهواء الشخصيّة لمن بيدهم الأمر، وليست نفس الهويّة التي خلقت سنوات وسنوات من الإبداع الحر المشهود له عالميا.
في عهد مبارك صدر للدكتور علاء الأسواني رواية \”عمارة يعقوبيان\” والتي تضمّنت مشاهد جنسيّة كاملة، ومنها مشاهد وحكايات جنسيّة لشخصيّة \”حاتم رشيد\” الرجل مثلي الجنس، والذي بمعايير من قضوا بحبس ناجي هو مرفوض شكلا ومضمونا، وقد يصل بهم الأمر إلى نحر عنقه، فكيف إذا عاقب الحياء العام تلك الرواية في هذا العهد الذي نتفق جميعا على ظلمه؟
تحوّلت الرواية وقتها إلى فيلم سينمائي حقق أعلى الإيرادات في دور العرض، وشارك فيه أبرز فنّاني مصر كعادل إمام ونور الشريف وخالد الصاوي.
هل اختلف الحياء العام وقتها عن اليوم؟ ولو هذا الاختلاف قد حدث فإلى أي اتجاه يحدث الاختلاف؟ إلى الأمام أم إلى الخلف؟ بالتأكيد فإن الحياء العام يخدشه تحرّش أمين الشرطة بامرأة تنتظر زوجها وطلبه منها أن تذهب معه إلى المنزل، أكثر من أن تخدشه رواية مكتوبة، وهذا إن كان لقارئ مثقف يقصد كتاب ليقرأه أن يُخدش له حياء من أي تعبير أدبي. بالتأكيد فإن الحياء العام المخدوش قد تجلّى في محاصرة أهالي الدرب الأحمر لمديرية أمن القاهرة بعد قتل أمين الشرطة المجرم للشاب المكافح، لم نر هذه الجموع تحاصر بيت \”ناجي\” من فرط الحياء، بل رأيناهم يحاصرون أكبر مقار الشرطة بعد وزارة الداخليّة، فإيّهما هنا الذي خدش الحياء العام إلى درجة أن ينتفض الناس ضده؟ هذا ما ستجيبنا عليه الأيام التي تسير إلى الأمام دائما، وتدهس كل من يريد إعادتها للخلف.
ولنختتم الحديث هنا بالختام بالتقليدي عن إن الإبداع لا يُمحى بأحكام، بل إنه ينتظر دائما خارج القضبان مهما طال الوقت.. بل نختتم هنا بتنويه بأن تلك هي المعركة الضروريّة للتكاتف بين كُل محب للأدب والفن، من يعرف ناجي قبل من لا يعرفه، وتلك هي معركة حريّة الفن والإبداع المؤجلة، وليخوضها المؤيد قبل المُعارض، فهي معركة المستقبل ضد الماضي السحيق.
يُنشر هذا المحتوى في إطار حملة مشتركة بين مواقع \”زائد 18\”، و\”مدى مصر\”، و\”قل\”،و \”زحمة\”. للتضامن مع الروائي أحمد ناجي.