(1)
\”ده أنا صنايعى، ده أنا أشرف منكوا كلكوا\”…
هكذا صاح أقرب أصدقاء ضحية \”الدرب الأحمر\” فى فيديو مُصور له بعد علمه بمقتل صديقه على يد أحد أمناء الشرطة.
إذا كنتم قد رأيتم هذا الفيديو، فأظن أنكم ستدركون ما اعترانى حين شاهدته، وإن لم تروه، دعونى أنقل لكم ما رأيت.
رأيت عينين حمراوتين، تشتعلان بالغضب، جسد يسرى فى عروقه كم هائل من الأدرنالين، صوت \”مبحوح\” من كثرة الصراخ، رغبة محتدمة فى البكاء، يصحبها رغبة عارمة فى الأخذ بالثأر.
أحسست بأجواء أول جمعة غضب تخيم على روحى، فخشِعت لذكراها، اندفع أدرنالينى يسرى فى كل شبر من جسدى معه، تذكرت شهداءنا وجرحانا، فبكيت، بكيت حتى أرتاح صدرى من الثقل الذى اعتلاه من هول الذكرى، ورددت وراءه \”أنا صنايعي، ده أنا أشرف منكوا كلكوا\”.
نعم يا عزيزى، أنت أشرف منهم جميعاً.
(2)
قرأت رواية \”باب الخروج\” للأستاذ عز الدين شكرى مرارا وتكراراً، وبقدر ما أحببتها بقدر ما أرعبتنى من كثرة ما أُريق فيها من دماء، فهى تسير فى سياق درامى تاريخى لأحداث ما بعد ثورة يناير –التى لم تكن قد حدثت بعد وقت صدورها- لم أصدق أحداثها مُطلقاً، وهونت على نفسى بأنها محض رواية، وأن المستقبل سيصبح أفضل، لن نسير فى مثل هذا الدرب الأحمر المخضب بالدماء.
أرعبتنى الرواية بحق، لأننى قرأتها بعد صدورها فى 2011 بفترة وجيزة، فظلت أحداثها تلاحقنى مع كل توقع قام به الدكتور عز من خلالها، لأنها تحدث بالحرف، بترتيب الأحداث، إنها تبدأ بخطاب، خطاب بسيط من أب لابنه فى عام 2020، يحكى له عن الثورة وما تلاها، من صعود الإسلام السياسى للحكم، إلى تصفيته فى مذبحة على يد العسكريين، وعودة العسكر مرة أخرى للحكم ليعيثون فى الأرض فساداً.
أدركت وقتها أن هذا الرجل قد سبقنا إلى كل الاستنتاجات الصحيحة، التى منعنا عمى الأمل من رؤيتها، أو ربما هو \”مخاوى\”، أو ربما قد أجرى الله الحق لسانه بالحق، لتظل هذه الرواية علامة فاصلة فى تاريخ مصر، لتظل شاهدا على الوطن، الوطن الذى مازال يبحث عن باب للخروج!
تتنبأ الرواية باستفحال شديد فى قوة جهاز الشرطة، وعودتهم أسوأ من ذى قبل، واطلاقه لغيلانه التى رباها ورعاها إلى أن أصبحث وحوشا كاسرة –الأمناء- لكنى لن اخبركم كيف حلها دكتور عز، فلتكتشفوا ذلك بأنفسكم، لعلكم ترتعبون كما أرتعبت!
(3)
عاب جموع مؤيدى السيسى ومُهللى الحكم العسكري على طبقات الانتلجنتسيا والمثقفين، الذين لطالما حذروا من قيام ثورة الطبقات المطحونة، ثورة تماثل ثورة الباستيل فى فرنسا، تلك التى انطلقت من الشارع وبه، لتقتل دون هوادة أو رحمة كل من نكلوا بالشعب، دون التفريق بين الصالح والطالح، حذروا من أن الثورة القادمة لن تكون ثورة الطلاب والشباب، بل هى ثورة المقصلة، تلك التى تُنصب فيها المشانق علناً، وتتحول دروب الشوارع إلى اللون الأحمر، ثورة المحاكم الشعبية، التى يصبح رئيسها وقاضيها ومحاميها الشعب، وسط صيحات تطالب بالقصاص والقتل، دون سماع لشهود أو لدفاع.
وقد حدث ما توقعوه، لنرى نبؤتهم فى محاصرة الجموع الغاضبة لمديرية الأمن، مما استدعى غلق الأقسام الثلاثة التابعة للمنطقة، خوفا ورهبة من المقصلة.
ورغم كل ما يحدث لا تزال ترى منهم من يبرر القتل والاعتداء بأن من قُتل همجى، يستحق القتل، ليأتيهم صوت صديق المقتول صائحاً: \”أنا صنايعى.. ده أنا أشرف منكوا كلكوا\”، ورغم هذا لا يعقلون!
(4)
أحاول أن أصم أُذنى وأغمض عينى يوميا عن انتهاكات جهاز الشرطة، وخصوصا الأمناء، اقرأ الحوادث \”الفردية\” يوميا على مواقع التواصل الاجتماعى، وابتلعها برشفة من الماء البارد، علها تطفئ غضبى وتسكتنى، يتردد فى عقلى رجاء أمى كل صباح بألا أكتب اليوم عن ظلم هذا البلد، لكنى اليوم لم أستطع، خصوصا بعد أن رأيت الشعب يقوم لأن نفسا ذاقت الموت الحرام أمام أعينهم، دق قلبى لمحاصرتهم لمديرية الأمن، لربما هذه هى بارقة الأمل التى ننتظرها، والتى ستجعل الجميع يقفون معا، ملعون هو الأمل، يجدد إيمانك دائما رغم قسمك الدائم لنفسك بأنك لن تسمح له أن يتسرب إلى روحك، وملعون هذا البلد الذى يرفض أن يتشبع قلبك باليأس، فيبعث إليك بأمل كل حين وآخر، لتنهض عن ثباتك، ولتقاوم، ولو حتى بأضعف الإيمان.
أرى ملامح أم مكلومة فى شاشة حاسوبى الآن، وهى تصرخ \”ارحم ابنى يا ريس\”، أرى ابتسامة شاب صغير تم نقل قضيته للأمن الوطنى لأنه ارتدى تيشرت مكتوبا عليه \”لا للتعذيب\”، أرى نفسى أسير متلفتة يمنى ويسرى كلما لمحت أمين شرطة من بعيد، داعية الله أن ينقذنى، إذا أراد أن \”يتسلى\” علىّ لبعض الوقت، أرى نفسى خائفة وأنا أكتب هذا المقال، من أن يدق بابى زوار الفجر، أرتعب من صوت غلق الأبواب، لأنه لا يوجد باب للخروج، واتساءل، أما آن الآوان للذين ظلموا أن تخشع قلوبهم من وقع ظلمهم المستشرى ومن مداه؟ ليجيبنى قلبى: بلى يا ربى آن، بلى آن!
أنا لا أعلم إلى ماذا سنتهتى أحداث يوم الدرب الأحمر، وهل ستذهب فى طى النسيان ككل حادث \”فردي\” يقوم به جهاز الشرطة أم لا، جُل ما أعرفه أن الثورة قائمة لا محالة، طالما الدرب مازال أحمر!