الكوميديان العظيم عبد الفتاح القصري يعشقه كل المصريين رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا، وأبدا لا يختلف على موهبته اثنان، فهو ظاهرة فنية فريدة لم يظهر لها مثيل رغم العدد الهائل من الكوميديانات والممثلين والمؤديين الذي حظت بهم مصر على مر العصور.
ورغم من غرابة ملامحه وتكوينه المصاحب لعوجان لسانه الذي جعلنا في عرض المجمع اللغوي، بالإضافة لسذاجة هيئته وبنطاله الذي يكاد يصل لحلقه، إلا أن براعته في تقديم أدواره الكوميدية بجدية شديدة وصدق تام، جعل حضوره يطغى على الأبطال الحقيقين لأي فيلم، ولعل أشهر أدواره التي جعلتنا نضحك حد البكاء، دورالجاهل في فيلم \”الأستاذة فاطمة\” ودور الأبله في فيلم \”ابن حميدو\”.
1- الجاهل
في فيلم \”الأستاذة فاطمة\” يقوم الفنان عبد الفتاح بدور الحاج \”عبد العزيز الشرقاوي\”، ابن البلد الجاهل، كثير المشاكل، والمصاب بعقدة نقص يثيرها دوما جاره السيد \”عمر كامل\”، المثقف المحبوب، والذي يقوم بدوره الفنان عبد الوارث عسر.
مع بداية الفيلم نعلم حقيقة الشجار، فعبد الفتاح يريد دون وجه حق انتهاك القانون ببناء حائط على أرض مشتركة بينه وبين جاره، فيمنع عنه النور والهواء.. يتلخص المنطق الجاهل المادي للحاج عبد العزيز عندما يقول: عجبٌ لمن عجب! فالأرض أرضي والملك ملكي والطوب والأسمنت والرمل بفلوسي.. كيف لا أبني؟! ويردد الجوقة من أتباعه: صحيح.. كيف لا يبني!
نصل بعدها لأقوى مشاهد الفيلم وأكثرها مشاهدة حتى يومنا هذا، عندما يصل الشجار لقاعة المحكمة ويقرر الحاج عبد العزيز الترافع بنفسه أمام القاضي واثقا تمام الثقة في فصاحه لسانه وقوة حجته في خطاب مرتجل ملتبس الحروف فاقد للمعنى، أثارعاصفة من الضحك عندما قال:
يا سيدي الرئيس، قضيتنا اليوم هى قضية الحق، ولقد جاء الحق و\”زهئ\” الباطل.. إن المتهم الواقف أمامكم خلف القضبان الحديدية مجرم أثيم وقاتل لئيم.. اعتدى على الشرف والفضيلة، الذى والتى يحميهن القانون، قتل حقوق الإنسان الذى تكفل بها مجلس الأمن، قتل الحرية الشخصية والحرية العمومية، قتل الأخلاق، قتل الشرف، قتل المدنية والمعمار، قتل أولئك وهؤلاء عامدا مستعمدا، فلذلك ولكل هاتيك المجانى أطلب من المحكمة أن تحكم على المتهم بالإعدام شنقا مع سبق الإصرار والترصد.
2 – الأبله
في فيلم \”ابن حميدو\” الذي يعد من علامات السينما المصرية والذي نحفظه جميعا عن ظهر قلب، قدم عبد الفتاح القصري أشهر أدواره على الأطلاق، وهو دور \”الريس حنفي\”، فظهر بدور شيخ الصيادين الساذج ضعيف الشخصية، والذي يحاول إدعاء القوة التي لا تلبث أن تنهار كل مرة أمام قوة شخصية زوجته التي يهابها، ويعتمد عبد الفتاح قبل البدء في تنفيذ أي مشروع على استشارة \”الباز أفندي\”، وهو وكيل أعماله الذي يتباهى بأنه ساقط توجيهية، ويصفه بأنه رجل \”مسئف\” ومستوعب الأشياء و\”آري\”، لذلك يرغب بشده في مناسبته دون مراعاة لمشاعر أو مستقبل ابنته الصغرى \”عزيزة\”.
كل أحداث الفيلم تثير الضحك، خاصة تلك المتعلقة ببلاهة الريس حنفي وسوء تقديره للمواقف التي تنتهي دائما بفشل ذريع، ولعل أشهر تلك المواقف هو موقف الاحتفال المهيب ببيع مشروعه الوهمي المتمثل في باخرته التي ما هي إلا مركب صغير مرمم.. خطب الريس حنفي خطبته العصماء أمام الجموع الغفيرة التي احتشدت أمام المنصة للاحتفال بهذا الحدث الجلل على أنغام المعازف والطبول، ووجدناه يقول:
\”والآن أيها (الإخوان) المجتمعين فى هذا الصوان، من سالف العصر والأوان، أسلم حسن أفندى القبطان وابن حميدو أفندى القرصان المفتاح الذهبى للباخرة العظيمة نورماندى تو\”
وبعد وصلة من الرقص والزغاريد وعموم البهجة في كل الحاضرين تيمنا بالحدث العظيم، تدفع زوجته المركب، وهي تقول: \”بسم الله مجراكي ومرساكي\”، وبعدها نجد القارب يغرق في الحال أمام أعين الجميع.
رحم الله الفنان الراحل عبد الفتاح القصري الذي طالما أضحكنا ولم يبكنا، والذي لم يطالب بسجن بريء، ولم يبعنا مشاريع وهمية، إلا في أفلامه فقط. فكلما تذكرناه دعونا له لا عليه.