بيشوي القمص يكتب: بتاع عربية الفول

 

لا أعرف ما الذى يدفعني يوميا لشراء الفول من عند العربية إياها \”المتلقحة\” تحت البيت، هل هو غرامي و عشقي للفول منذ أيام الصعلكة والعزوبية، أم هو حنين إلى الماضي، أم متعة الأكل واقفا في الشارع، ثم اكتشفت السبب متأخرا بعدما كادت تلك الساندويتشات الممتلئة بالحصى  أن تأتى على معدتي ذات الحس المرهف، إن السبب الحقيقي لاستمراري في الأكل من عند تلك العربية، بالرغم من تحذيرات أمي، وتهديدات زوجتي، وتنبيهات الدكتور، هو رغبتي الملحة المتكررة فى مداعبة \”بتاع الفول\” واجتذاب أطراف الحديث معه، وحثه على إنه \”يدلق اللى جواه\”، فلا استطيع مقاومة أن \”أنغزه \” بكلمة \”تسخنه\” وهو بدوره لا يستطيع مقاومة إخراج الشحنة العصبية المتراكمة بداخله عن حال البلد، والشهادة لله الراجل \”ما بيصدق\” أن يشعر أن أحدهم يتعاطف معه ويشاركه همه والحديث عن أحوال البلد، فينطلق كالصاروخ ليروي كل ما في جعبته.

اليوم صباحا داعبته ساخرا عن ازدياد سعر \”شقه الفول\” (نص الرغيف نصف الممتلئ)، فأجابني بحسرة منفعلا \”يا بيه هو فيه أقل من الفول الناس تتقوت بيه؟ من ساعة واحدة جه واحد سألني بكام ساندويتش الفول، قلت له الرغيف باتنين جنيه، راح بص في الفلوس اللي معاه وحط راسه في الأرض ومشى، بالذمة يرضى مين ده بس؟ منه لله ابن الـ*** وزير الـ ***، خرب البلد واكلها والعة، ورجالته بياخدوا مننا إتاوات وعمالين ينهبوا فلوس عمال على بطال، أنت عارف أنا بدفع قد إيه إتاوة لأمين الشرطة ابن الـ*** اللي ماسك المنطقة عشان يسيبني واقف مطرحي؟ خمسين جنيه بحالهم كل طلعة شمس ، ثم اعقب جملته بـ \”شخرة\” عالية التردد، ثم أردف \”هي ديه بلد يا أستاذ يتعاش فيها؟ ولله الواحد بقى خايف يجيب حشيش لحسن يكون متسرطن هو راخر\”، ثم اعقب بـ \”شخرة\” تالية، تبعها بكلمة اعتراضية من ثلاثة حروف ، فنصحته أن يحاول أن يقلل من تكرار \”الشخر\” حفاظا على أنفه من الالتهابات، فعاتبني على نصيحتي وأجاب بحزم قائلا: \”ما أنا بطلت سجاير يا بيه، بس أكيد مش عشان صحتي، لكن عشان مش قادر على تمنها بعد ما غليت ورفعوا الضرايب عليها، لكن مش معقول ابطل سجاير وابطل شخر.. مقدرش يا بيه، و بعدين ماتطلعنيش بره الموضوع\”، اجبته بسؤال محاولا أن أنسيه موضوع الشخر، خوفا على جهازه التنفسي وأحباله الصوتية \”بس أنت طلعت جامد في السياسة.. عرفت الحاجات دي كلها منين؟\”، أجابني قائلا \”من حكاوى الزباين يا بيه، تبقى الزباين بتاكل وبتقرأ الجرايد في نفس الوقت، والفول والبصل عامل معاهم أحلى شغل، وشوية شوية يحكوا في المواضيع دي، وأنا ليا ودان بسمع بيها، ولسان اتكلم بيه معاهم، أجبته مداعباً \”يا عم أنت هاتخوفني منك ولا إيه؟ الوقفة معاك دي هاتودينا فى داهية\”، أجابني بعد أن أطلق شخرة ع الماشي \”ما إحنا كده كده رايحين فى داهية، أنا سمعت يا بيه إنهم حاطين جهاز \”تصمت\” (تصنت) في بيت كل بنى آدم مننا، وفي كل عربية، وفي \”المكروباظات\”، والأتوبيسات، وحتى في الموبايل اللي حضرتك ماسكه في إيدك من ساعة ما جيت ولا مؤاخذة، أمال أنت فاكر الأوسااااز عبوحييم بيجيب التسجيلات بتاعته منين؟\”، حاولت أن افهمه أن ما يقصده هو جهاز تصنت وليس \”تصمت\”، لكنه أصر على صحة ما يقول، معللا أن اسمه جهاز \”تصمت\” وليس تصنت، لأنه يجبر الناس على الصمت عشان \”مايتسجلش كلامهم\”، ثم أردف قائلاً \”دول كمان تلاقيهم حاطين جهاز وسط قدرة الفول ديه اللي حضرتك بتاكل منها، لكن كفاية بقى، الواحد قرف وزهق، ها نفضل ساكتين لحد إمتى؟\”، ثم ختم جملته بشخرى مرة أخرى.

لم أشأ تلك المرة أن أثنيه عن عادته المحببة، التي بلا شك قد صارت بمثابة نوع من الراحة النفسية لديه، لكن ما أخشاه أن يعتاد عليها وتصبح لصيقة بلسانه، وعندما احييه صباحا ذات يوم يطلق شخرته المعتادة، ثم يرد تحية الصباح.

فجأة انتبهت أنه قد صمت وكف عن حديثه، ووجدته \”يبحلق\” في نقطة خلفي، ثم رفع يده بالتحية قائلا \”اتفضل يا سعادة البيه\” (تحية خالصة بدون أي أصوات جانبية)، فنظرت خلفي لأجد أمين الشرطة البدين على موتوسيكله يشير له بيده معنفا \”يالا بسرعة يا بنى آدم فين الطلب بتاعي.. هو أنا لسه هاستناك؟\”، فعاجله بتاع الفول قائلا \”والنبي الطلب جاهز يا باشا ومستني سيادتك، ربنا يخليك لينا يا أحسن باشا في أحسن بلد في الدنيا، أنت سيادتك متعرفش إن …\”، عاجله أمين الشرطة بعنف جعله ينتفض قائلا \”أخلص يالا أنت ها تحكيلى قصة حياتك؟ يالا يا روح أمك أخلص وهات الساندويتشات\”، ثم نظر إليّ أمين الشرطة فوجدني غارقا في الضحك، فرمقني بطرف عينه قائلاً \”بتضحك على إيه يا أستاذ؟ تحب أجيبلك بنص جنيه زغازيغ؟ ولا تييجى معايا القسم تضحك حبتين كمان؟\”، اعتذرت مبررا ضحكي بنكتة ألقاها على مسامعي صاحب عربة الفول قبل مجيئه بقليل، ثم نظرت لبتاع الفول متضرعا إليه، منتظرا إثبات كلامي، فرمقني هو الآخر بطرف عينه، ثم بابتسامة خبيثة تسللت إلى شفتيه رغما عنه، مؤكدا صحة كلامي، ثم مد يده بالساندويتشات، مناولا إياها لأمين الشرطة، داعيا له بطول العمر هو والوزير بتاعه والحكومة كلها، دون أن ينتظر ثمن الفول بالطبع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top