وليد فكري يكتب: لكم دينكم ولي دين (8)

هل الإسلام دين ضعيف؟

عن نفسي أومن بالعكس، وإلا ما كنت لأتخذه دينا، ولكنني أخشى أن كثيرا من المسلمين يقدمون صورة عن دينهم أنه هش متهالك يحتاج إلى الكثير من التدابير الاحترازية لحمايته من الانهيار.

حساسية مفرطة لمناقشة أمور مثل العقيدة، الإيمان، الألوهية، نشأة الكون، ما بعد الحياة، صحة بعض النصوص الإسلامية غير القرآنية.

تربص بمن يتناول بعض مكونات الدين بالنقد والبحث.

غضب هيستيري من أي طرح مخالف للشائع.

تحصين لفتاوى الشيوخ من النقد كأنها نصوص مقدسة أو كأنهم معصومون من الخطأ.

تمسك بقوانين قاسية تحاصر كل من يفكر في أي طرح مخالف بتهم مثل ازدراء الأديان والإساءة للمقدسات.

تشبث بفكرة أن  من يخالف هذا النص أو ذاك فقد كفر بالدين، وأن من يختار ترك اعتناق الإسلام فهو مستوجب للقتل بالضرورة.

كل هذا يصدر للآخر-بل وللمسلمين أنفسهم- فكرة أن الإسلام ضعيف بحيث أنه لا مجال لصموده وبقائه إلا بإنشاء الحصون وشق الخنادق وزرع الألغام حول كل شبر منه!

دعوني أقص عليكم قصة: في عهد هارون الرشيد أرسل هذا الأخير جيشا لبعض الممالك الآسيوية غير المسلمة مخيرا إياهم بين ثلاث: اعتناق الإسلام، دفع الجزية، القتال.. فأرسلوا له عرضا آخر: أن أرسل أقوى فقهاء دولتك يحاورون كبير رجال ديننا، فمن غلب الآخر في المناظرة تبع المغلوب دينه.. فأرسل لهم كبير قضاته.. وطرح عليه كبير كهنتهم سؤالا: هل الله قادر على كل شيء؟

فاجاب: نعم هو قادر على كل شيء.

فسأله مجددا: وهل هو الإله الواحد الذي لا شريك له؟

فأجاب ثانية: نعم فلا إله غيره.

هنا طرح رجل الدين السؤال الأخطر: فهل يقدر الله أن يخلق إلها مثله؟

فأسقط في يد القاضي المسلم، فلو أقر بذلك فقد أنكر الوحدانية، ولو أنكر أن الله قادر على خلق إله آخر فقد أنكر كلية القدرة الإلهية.

عندما بلغ هارون الرشيد الخبر صاح بغضب: أما لهذا الدين من يناظر عنه؟!

في ذلك الوقت كانت الدولة تسجن بعض المشتغلين ببعض العلوم النقاشية المتأثرة بفلسفات اليونان، لأنهم كانوا يستخدمونها في مناقشة الموضوعات الدينية، فكانت الدولة تعاملهم معاملة المتهمين حاليا بازدراء الأديان، باعتبار أنهم يخالفون نمط عمل الفقهاء.. هنا تقدم بعض رجال الرشيد واقترح عليه أن يعرض المناظرة عليهم لعلهم يستطيعون الرد.. وقد كان.

سمع هؤلاء \”المتكلمون\” السؤال، فأجاب أحدهم بهدوء: بلى، يقدر الله أن يخلق إلها، ولكنه لن يكون مثله، فالله قديم، وليس الجديد بمثل القديم.

أبلغ الرشيد رجال الدين الآخر تلك الإجابة، فاقتنعوا بها وآمنوا بالإسلام دينا، وأفرج الرشيد عن تلك الفئة التي كان مغضوب عليها اعترافا منه بأهمية دورهم في تجديد وتقوية الخطاب الديني.

لاحظ هنا عدة مواقف جديرة بالتأمل:

موقف هارون الرشيد المتقبل لمبدأ المناظرة والنقاش.

موقفه من المأزق النقاشي العويص وإصراره على الاستمرار في استخدام سلاح المناظرة والنقاش رغم سهولة اللجوء لخيار القوة.

موقف الدولة الذي تغير من المتكلمين.

أين عقليات أيامنا هذه من تلك المرونة؟

سأقص عليكم قصة أخرى تسبق القصة سالفة الذكر زمنيا.. تحديدا في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز، فقد كان مرتاعا من نهر الدماء المتدفق بين الدولة والخوارج، فأرسل يطلب مناظرتهم كحل سلمي للخلاف التاريخي بين الطرفين.. فأرسلوا له رجلين.

طرح الطرفان رؤيتهما للدين والدولة، وفي وسط النقاش، واستغلالا من جانب الخوارج لإقرار عمر ببعض مظالم أسلافه من خلفاء بني أمية طلب منه المحاوران أن يجاهر بلعن هؤلاء الخلفاء من فوق المنبر، فلم يغضب أو يتشنج، بل سألهما في المقابل \”ما آخر عهدكما بلعن فرعون؟\”، هنا أصابت الدهشة ممثلا الخوارج وأجابا أنهما لا يذكران أنهما -بل وأن كل رفاقهما- قد تعرضوا لذكر فرعون باللعن، فقال لهما \”ويحكما.. ألا تلعنا فرعون وهو طاغية كافر، وتريدان مني أن ألعن أهلي وهم مسلمون؟\”

ثم قرروا تأجيل المناقشة لجولة تالية وإقرار الهدنة خلالها، لكن العمر لم يمهل الخليفة لإكمال مبادرته، ولو امهله فربما كان التاريخ -فيما يتعلق بصراع الدولةوالخوارج- ليتغير تماما.

لا ينضب معين القصص ذات الصلة،  فالإمام علي بن أبي طالب -عليه السلام- عندما خرج عليه الخوارج وكانوا يقاطعونه في مسجد الكوفة وهو يخطب في الناس ويصيحون به \”الحكم لله\” ويتهمونه في دينه -وهو من هو- لم يقمعهم ويضطهدهم، بل أكد لهم استمرار عطائهم من بيت المال، وكافة حقوقهم كرعايا للدولة، ولم يرفع عليهم سيفا إلا عندما قتلوا أحد التابعين وزوجته الحبلى، ورفضوا تسليم قتلتهما وجاهروا برفع السلاح مغلقين أبواب النقاش والحوار.

جدير بالذكر أن خلال هذا الصراع المرير كان النقاش والأخذ والرد يلعبان دورهما في رد كثير من الخوارج عن منهجهم المتطرف، أي أن الكلمة كانت تلعب دورها القوي أمام السيف.

ثلاث نماذج لتقبل الاختلاف والتعامل معه بالنقاش، وإثبات قوة الكلمة والحجة والدليل في مواجهة السلاح والعناد والتطرف والقمع، وما أكثر النماذج المشابهة في التاريخ الإسلامي.. ولاحظ عزيزي القاريء أنني أتحدث عن فترات من قوة الدولة وازدهارها، هذه الدولة القوية أدركت أن قوة الدين الذي تقوم عليه تكمن في الحوار والحجج، لا التخويف والترهيب والتشنج.

ففيمّ إذن يتشنج المتشنجون ويتعصب وينفعل المتعصبون ومدمنو الهيستيريا؟

للحديث بقية.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top