ذات يوم حكيت لابنتي الصغيرة عن ضرورة الخروج عن النص أحيانا, لدي صغيرة مؤمنة بالالتزام التزاما تاما وصارما, ولديها أم مؤمنة بضرورة الخروج عن النص, هذه المعادلة قد تثمر في المستقبل شيئا مجنونا عبقريا, الخروج على النص.. أي نص هو جوهر الحياة, روحها التي نخنقها داخل ابنائنا منذ الطفولة بالتربية المفرطة في الأدب والتهذيب.
كنت احكي لصديق لي عن كاريزما عبد الناصر وإنجازاته العظيمة حقا, لا مجال لإنكار إنجازاته، ولا كاريزمته الشخصية, لكن هذه الكاريزما والإنجازات، اوقعت الشعب الغلبان في محبة مفرطة, فوقف فاغرا فاه أمام عظمة الزعيم, كان لهذا تأثيرات شديدة السلبية على الديموقراطية.
يحاول السيسي إعادة تجربة الستينيات, طبعا يخونه أنه لا يحمل كاريزما عبد الناصر ولا إنجازاته , لكنه يريدنا رغما عنا أن نقف فاغرين أفواهنا, يعتقد أن هذا ممكن بإنجاز اكبر كمية قمع ممكنة, يريد أيضا إعادة انتاج تجربة السبعينيات ويتبني خطاب \”العيب, واللي مايصحش\”, هو يريد أن يحكم شعبا مهذبا ووقورا, ولا اعتقد أنه سيجد ضالته في المصريين.
من هنا تأتي أهمية الخروج على النص.. المحاولات الصاخبة والمتجاوزة خطوط المجتمع الحمراء الآن فقط هي التي تؤكد أن الثورة حية, وأن الجيل الذي انجزها لن يقع في شرك الاعجاب بالزعيم.. أي زعيم، حتى لو كان زعيما صالحا وله إنجازات.
هذا الجيل هو ذاته الذي خرج وراء البرادعي في ثورة 25 يناير, لكنه لم يتوقف على انتقاده حين شعر أنه حان أوان الانتقاد, لم يتوقف عن السخرية منه أيضا برغم المحبة أو انعدامها.
هذا جيل لا يمنح صكوك الثقة الأبدية لأي من كان, ولا يحمل قداسة، ولا يذوب هياما في كاريزما أي زعيم، وهذا من جماليات ثورة يناير، والجيل الذي انجزها.
اشعر في كثير من الأحيان أن هذه الثورة وبالرغم من كونها فعلا شعبيا جماعيا شاركت فيه كل الفئات, إلا أنها كانت معجونة بروح الجيل الأحدث في مصر, كانت تحمل فتوته وحيويته وثقافته المتجاوزة للأيدلوجيا والزعيم, المتجردة أمام المصالح, الجسورة أمام المخاطر.
أنا من جيل أكبر بكثير من هؤلاء، لكن عليّ أن اعترف أن هذه الثورة غيرتني كثيرا, أو هي ربما أيقظت داخلي ذلك العفريت الذي يحب أن يتجاوز كل الخطوط الحمراء.. اذكروا أفضال ثورة يناير عليكم، لتكتشفوا أنها ليست حدثا عابرا في التاريخ، وأن محاولة الجنرالات وأساطين نظام مبارك القضاء عليها، لن تنجح على الإطلاق.
متى شعرت بهذا على وجه اليقين؟ حينما شاهدت فيديو الكاندوم الذي أعده شادي حسين وأحمد مالك, قد تختلف مع الفكرة أو تكرهها، لكن لابد وأن تعترف أنها مبدعة.. الأكثر من هذا أنها \”حراقة\”.. النظام يغلق كل أبواب التعبير بالضبة والمفتاح, يتصور أنه يستطيع أن يصادر كل الأنفاس, لن تصل رسالة لهذا النظام مفادها أن ما يريده مستحيلا، والأكثر أنه \”عيب وحرام وتتهز له سبع سموات\”، إلا بافكار حراقة وحارقة كما فعله شادي وأحمد مالك, لربما لهذا كان الغضب \”المأفور\” للنظام ومؤيديه من فيديو الكاندوم.
القبض على إسلام جاويش رسام الكاريكاتير أيضا يأتي ضمن هذه الرسائل المشفرة، بالصراع الدائر بين روح ثورة يناير, والنظام.. إسلام رسام كاريكاتير، والكاريكاتير هو الفن الكثر سخونة, الأكثر من هذا أن اسلام مبدع استطاع اختراق الصفوف المغلقة على الكبار والمؤيدين والـ… بإنجاز خارج النسق، وهو تجربة \”الورقة\” التي استغنت عن النسق السائد، لكنها حققت نجاحا كبيرا, فضلا عن حفاظه على الخط المعادي للنظام، على عكس الكثيرين من الرسامين الذين تحولوا لمهرجي السلطان.
ستترسخ أقدام النظام الذي اقتلعناه في يناير وعاد الآن شرسا أكثر مما كان, فقط حينما نتوقف عن السخرية و\”القباحة\”, حين يستسلم أبناء يناير للنص المحافظ والمهذب والمفرط في الأدب الذي يضعه النظام, حين ندخل الصندوق/النسق, ولا اعتقد أن هذا ممكن الحدوث, فروح ثورة يناير تطوف في البلاد مثل جني يبحث مرة أخرى عن حكايته.