آلاء الكسباني تكتب: السوشيال ميديا وبالونات الهيليوم

(1)

قرأت منذ يومين منشورا على الفيسبوك، تتحدث فيه فتاة عن علاقة \”الدنجوان\” رشدى أباظة بزوجته الفاتنة سامية جمال، حيث أوضحت رد فعل سامية حين علمت بزواج رشدى من الشحرورة صباح، فهى لم تتأثر ولم تتزعزع ولم تتنحنح، على العكس، فقد كانت على دراية بأنها تركت أثرها الخاص الجلىّ فى نفس الدنجوان، وبأنه بالرغم من نزواته ومهما قابل من حسناوات ومهما \”لف ودار\” سيعود إليها من جديد مُعلِناً حبه لها مُشهِرا راية الاستسلام أمام عينيها، ومن ثم يجب أن تحرصى عزيزتى المرأة على أن تتركى أثرك على رجُلِك –على حد قول صاحبة المنشور- حتى يعود إليك من جديد، يجب ان تتأكدى أن رائحتك تطارده، وأنه مهما رأى من نساء العالمين ومهما بلغ حجم نزواته ستظلين أنتِ الحبيبة التى لا يستطيع العيش بدونها.

فى الحقيقة، لم يلفت نظرى محتوى المنشور الردئ فحسب، بل عدد المشاركة والاعجاب الذى ناله، كان أغلبه من فتيات بالغات قادرات عاقلات.

إن أى امرأة عاقلة ستدرك جيداً أن رجلا مثل هذا يجب أن تهربى بعيداً عنه مئات الآلاف من الأميال، ليس فقط لأنه سيستهلِك كل طاقات الحب التى تبذلها، وستذهب كل محاولاتها لتغدو فى عينيه الأفضل والأجمل سُدى، بل لإنها ستُضيع أحلى أيام عمرها مع رجل لا يكتفى بواحدة أبداً، فهو أنانى بما يكفى لكى لا يرى فى مرآته سوى نفسه فحسب، سيجعلها تشعر بأنها واحدة من كثيرات فى حياته، سيُفنيها ويُحطمها ويمتص طاقات اللهفة والحنان والأمان التى تُعطيها له بدون مقابل، بأكاذيب بلهاء تخمد شكوكها، سيُلفقها بضمير مرتاح، لتفيق من غفوتها أخيرا وقد سُرِقت سنينا من عمرها، بذلتها كهشيم تذره الرياح، وبالرغم من كل هذا تداولت الفتيات هذا المنشور بمشاركات من نوع \”ما أجملهم\”، \”هذا هو الحب\”، \”كل رجل مهما فتنته نساء العالمين سيظل بقلبه واحدة فقط\”، وهذه كارثة إنسانية كبيرة بكل المقاييس!

(2)

لا، لم يقف انبهارى بالفيسبوك عند هذا الحد، فلم ألبث أن اختار خاصية \”إخفاء المنشور\”، حتى طالعنى آخر تتحدث فيه صاحبته عن فيلم \”عريس من جهة أمنية\”، مؤكدة فيه على جمال علاقة خطّاب النجارى بابنته، وكيف أنه كان يشاركها اهتماماتها ويحتويها ويحرص على ملأ الثغرة التى ينفذ منها أى شاب لأى فتاة، قلبها.

قالت صاحبة المنشور: \”أحب خطاب ابنته حبا جماً، مما جعله يغير عليها حين تقدم الشاب الذى تحبه لخطبتها، ففعل المستحيل ليفسد هذه الزيجة، لم يفعل مثل آباء هذه الأيام الذين يتمنون زواج بناتهم سريعا ويبحثون لهن عن عِرسان أغنياء ليتخلصوا من أحمالهن الثقيلة، فتربية الأنثى تحتاج إلى رجل\”.

وبرغم اتفاقى معها فى أغلب ما قالته، إلا أننى اختلف مع المثال نفسه، فعلاقة خطاب النجارى بابنته علاقة غير سوية، حيث تحولت مع الوقت إلى حب امتلاك وأنانية بحتة، ورغم يقينى بافتقاد الفتيات فى مجتمعنا الذكورى المُتسلط لنموذج الأب الذى يحتوى ابنته ويحبها ويشاركها اهتماماتها، إلا أن المثال الفقير الذى أوردته صاحبة المنشور –والذى نال آلاف المشاركة والاعجاب من فتيات أخريات- يفتقر إلى المساندة ودعم الاختيارات والقرارت والحرص على مصلحة الابنة بدون الالتفات للمصلحة الشخصية، كما يتملئ بالأنانية المُجردة والرغبة المحمومة فى الامتلاك الأعمى، فلنمعن النظر بعيدا عن الإيفيهات والكوميديا، أفعال عادل إمام الأنانية ستستفحل وتزداد لدرجة أن يفرق بين ابنته وزوجها بعد حملها، ليس هذا بالنموذج الأبوى الذى تتمنى أى فتاة أن تحصل عليه! فالأب حين يحتوى ابنته، يحرص على أن يكون هذا بطريقة مُعتدلة وعقلانية.

(3)

انتشرت مؤخرا منشورات غريبة، من نوعية \”اللى مايغسلش بروحه سواد روحك مايستاهلكيش\”، \”اعمليلى من حضنك شال اتدفى بيه وسط برد الوحدة برغم الزحام\”، \”سبينيى اشرب من دموعك اللى يروى قصرية زرع قلبى\”… إلخ إلخ.

وبالرغم من عدم فهمى لأغلب هذا الكلام الذى يسمونه \”غزل\”، إلا أننى لم أحاول أن اتشدق به أو أن أُقلل ممن يكتبونه أو من يشاركونه ويعجبون به على مواقع التواصل الاجتماعى، حتى وجدت أن هذه المنشورات تصنع من أُناس وحسابات شخصية على هذه المواقع، بالونات هيليوم ضخمة، تُحلق وسط سماء الجماهير العريضة، خاصةً الفتيات، وبمرور الوقت تتحول هذه الحسابات وهؤلاء الناس إلى أيقونات فى عالم \”الفيسبوك\”، لهم كلماتهم النافذة، وآراؤهم التى لا يحيد عنها جماهيرهم، بل وتصنع منهم كُتابا وصُناع رأى، فبفضل عدد متابعيهم تتهافت عليهم دور النشر المختلفة، ليستكتبونهم ويصدرون لهم كُتبا يتم تداولها بين الشباب مُحققة أرقام فلكية.

منهم من هو مهتم بتحقيق شهرة واسعة، ومنهم من هو مهتم بتعليق أكبر قدر من الفتيات به، ومنهم من هو مهتم بإقامة علاقات جنسية باسم  الحب أو كما يسمونها بلغة العصر \”يشقُط\”\”، ومنهم من يؤمن بكلامه فعلا ويُصدق أن الله خلقه فى هذه الحياة لينشر الحب بين النفوس فى كل ربوع الكرة الأرضية، لا يهمنى حقا اختلاف الدوافع، فالأسباب تتعدد والنتيجة واحدة.

(4)

تجذب الثلاثة أنواع السابقة من المنشورات قواعد عريضة من الشباب، خصوصا الفتيات، وبالرغم من إدراك الكثيرين أن هذه الأنواع ما هى إلا محاولات بائسة للشهرة أو الشقط أو عن اقتناع أبله بصحتها، وبالرغم من سخريتهم اللاذعة منهم قائلين إنهم \”يفيضون بالشغف\” و\”حلوين بزيادة\”، إلا أنهم لم يتوقفوا لحظة ليتساءلوا عن السبب الذى جعل قاعدة عريضة من الناس تستيغ هذا النوع من المنشورات، لتنال آلاف الإعجابات والمشاركات وليتحول أصحابها على صداها إلى أيقونات إلكترونية، لم يتوقفوا لينتبهوا إلى الكارثة التى تحتل مجتمعنا وتتوغل فيه وتنتشر.

إن الشباب فى مصر، خصوصا الفتيات، لا يعيشون علاقات إنسانية سوية، لا يعرفونها ولا يدركون كُنه مفهومها.

فلم يحدث أن عايشت الفتيات المصريات وجود أب يحتويها ويهتم باهتماماتها، أب يمارس أبوته بحنان ورفق، يُصادق ابنته ويحبها حبا لا أنانية فيه ولا فروضا الطاعة والولاء، أب يساهم فى تكوين شخصية ابنته لتصبح امرأة يفخر بها، فيشد من أزرها ويملأها بالطموح والأحلام، يقوى من شخصيتها فيجعلها ناضجة بما يكفى لتواجه متاعب الحياة، فالأباء فى مصر هم ثاني أكثر شىء مُرعب بعد أمن الدولة، خصوصا لو كنت فتاة، حيث يُحرم عليك أشياء لا تجد أى منطق فى تحريمها، وتستحيل فى نهاية المطاف إلى سلعة تُعرض بثمن يقدره الأب ليتم شراؤك بكل بساطة، بل والاحتفاء بهذا الشراء.

هذا ما جعل الفتيات يتعلقن وينجذبن بمثال خطاب النجارى، ويرين فيه الإنقاذ وغاية المنى.

لم يحدث أن عرفت الفتيات حقوقهن فى العلاقات العاطفية، لم يحدث أن يجدن شابا قادرا على العطاء والحب دون أن تكون له علاقات أخطبوطية متشعبة، شاب قادر على ألا يخاف من نجاحهن، أو يعتبرهن أندادا، هن لا يعرفن أصلا أن من حقهن أن يكون لهن كيانا خاصا يستغني به الرجل عن أى امرأة أخرى، أن من حقهن أن يرفعن صوتهن مُطالبات بالشيك رغم وجود رجلهن معهن، وأن يُدعين بأسمائهن لا بأسماء أزواجهن، هن لا يعرفن أن الرجل يجب أن يُساهم فى بناء شخصية امرأته ليجعلها جريئة حرة لا تخشى فى الحق لومة لائم، مثلما يجب ان تُساهم هى، وأن بقائهن مع رجل يمسح نعله فى قلوب الفتيات ينتقص من كرامتهن ويجعهلن حريما لا أكثر ولا أقل، فيقعن فى غرام منشورات \”لو بيحبك هايلف يلف ويرجعلك\”.

لم تجرب الفتيات العلاقات الإنسانية السوية التى لا تكسر، لم يعرفن الغزل الطبيعى \”العادى بتاع البنى آدمين\”، فجذبتهن منشورات المشاهير ذات الأحضان والخدود والشتاء وابتذال المشاعر فى القدرة على الاحتواء، وانجذبن لحسابات شخصية لأُناس يسمون أنفسهم كُتاب، وهم أبعد ما يكونوا عن هذا، فهم محض مدعين، يكتبون ما لا يؤمنون به بغض النظر عن دوافعهم، بالونات هليومية، مصيرها تصطدم بدبوس حاد للغاية.

شوهت مواقع التواصل الاجتماعى العلاقات، فكانت الأثر والنتيجة، جعلت من خطوبة محمد محسن وهبة مجدى انجازا تتحاكى به البشرية، جعلت منا جميعا مسوخا.. مسوخ يأكلون طوال حياتهم لحوم نيئة، فكيف لهم أن يستسيغوا اللحم الناضج المطبوخ؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top