ماجدة خيرالله تكتب: فيلم "ذيب".. والنوم مع العدو حتى تأتي لحظة الانتقام

 

كان لوصول الفيلم الأردني \”ذيب \” أو ذئب، إلى الترشيحات النهائية لأوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية، صدى واسع المدى، بين كل من يعشق فن السينما، في عالمنا العربي، فنحن في أمس الحاجة إلى أي إنجاز يخرج من هذه البقعة الجغرافية الممتدة من الخليج للمحيط، والمدانة دائما بالتخلف والجهل وتصدير العنف، لبقية بقاع الأرض.

ولم يعد حيلتنا إلا بضعة إنجازات في مجال بعض الألعاب الرياضية نحققها في حقب متفرقة، أو الإتكاء والتمحك بسمعة عالم جليل له شأن في مجال جراحة القلب، أكرمة الله بالحياة في مجتمع أنقى وأكثر تحضرا، فأينعت عبقريته وتمكن من أن ينال لقب سير، من ملكة بريطانيا، بينما نحن لم نقدم له شيئا، سوى ذكر اسمة كلما احتجنا للتفاخر، بأن أرضنا العجفاء لا تزال قادرة على إنبات بعض المواهب بقانون الصدفة البحته! فيلم \”ذيب\” من إخراج وتأليف الأردني الشاب ناجي أبو نوار، وقد حصد أكثر من خمسة عشر جائزة، من مهرجانات عدة، وكانت قمة ما وصل إليه، الترشح للأوسكار، وكان المخرج الفلسطيني هاني أبو سعد قد سبقه للترشح للأوسكار مرتين، الأولى  كانت في عام 2005 مع وصول فيلم \”الجنة الآن\” لقائمة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية، والثانية كانت في عام 2013 مع فيلم \”عمر\”، وإذا سألت عن موقع السينما المصرية ذات التاريخ الطويل الذي يمتد لمائة عام في صناعة الأفلام، فسوف تجد صوتا عميقا وغليظا يصدر من مكان مجهول، كما كان  صوت الطوخي في الأفلام الدينية العتيقة، حيقولك: إنسى حكاية التاريخ، وبص لنفسك دلوقتي.. الشعوب لا تعيش على ماضيها يا مواطن.. بص لخيبتك وواجه نفسك.. أنت في ديل قائمة الشعوب، وحالك أصبح مسخرة، وعندما تأخذك الجلالة، وينقح عليك عرق العنجهية، وتقوله إخرس ثكلتك أمك، إنت ماتعرفش السينما المصرية وقيمتها على شعوب عالمنا العربي، ده إحنا اللي كنا….، سوف تجد الصوت الغليظ قد تلاشى، ودخل الكادر صوت آخر غريب، ستجد صعوبة في البداية أن تتبينه، ولكنك سوف تدرك حتما أن إنشراح إشتغلت!

قد تكون السينما المصريه، قد أكرمها الله في السنوات القليلة الأخيرة وقدمت بعد طول ثبات يصل إلى حد الموات، عددا من الأفلام الجيدة، لكنه عدد قليل لا يتناسب مطلقا مع طول تاريخها، ومع ذلك لم نفكر جديا في دخول مجال المنافسة، أو محاولة المشاركة بها في سباق الأوسكار، وكانت الحجة التي يسوقها البعض، والبعض هنا تعود على الجهة المعنية بالأمر، وهي نقابة المهن السينمائية، أننا تأخرنا كثيرا وراحت علينا نومه، ولم نرسل نسخة من أي من الأفلام التي كانت جديرة بالمشاركة، والوقت قد أدركنا وضاعت الفرصة، تلو الفرصة!

على أي حال، الأشياء الطيبة لا تأت إلا لمن يستحقها فعلا، وفيلم \”ذيب\”يستحق ما وصل إليه، وفرصته في الفوز هي نفس فرصة الأفلام الخمسة المتنافسة، وفوز إحداها لا يعني أنه الأفضل، لكنة يعني فقط أنه حصل على أوسكار 2016، والمؤشرات تميل أو ترجح كفة المجري \”ابن شاؤول\”، ولو أن مع الأوسكار كل الاحتمالات والمفاجآت واردة، وسواء نجح \”ذيب\” في الحصول على الأوسكار، أم ظل محتفظا بعبارة كان مرشحا، فإنه سيظل أحد الأفلام الجميلة التي لن تغادر خيالك أبدا.

\”ذيب\” يسبح في صفحات التاريخ والجغرافيا أيضا، تبدأ أحداثه في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حيث الدولة العثمانية، التي كانت تبسط نفوذها على مناطق كبيرة من العالم العربي قد بدأت تتهاوى وتضعف، بينما بدأت كل من إنجلترا وفرنسا تسعى لتقسيم تركة الرجل العجوز \”سايكس بيكو\”. تلك هي الخلفية التاريخية لأحداث \”ذيب\”، أما المساحة الجغرافية التي تتحرك فيها شخصيات الفيلم، فهي الصحراء الممتدة من جنوب الشام، إلى الحجاز، ومع المشهد الافتتاحي، سوف تتعرف على \”ذيب\” الطفل \”جاسرعيد\”، وهو الشخصية المحورية ومحرك الأحداث، وهو يقوم بإلقاء دلوه في بئر مياه، كي يسقي بعض الدواب، وسرعان ما نتعرف على حسين الشقيق الأكبر، للصبي \”ذيب\”، وهو يقوم بتدريبه على التعامل مع البندقية، وإصابة هدف غير متحرك، ولأن أي سيناريو احترافي لا يقدم تفصيلة مجانية، فيمكن أن تدرك بسهولة أن هذا الطفل الصغيرالذي لا يزيد عمره عن عشرة سنوات، سوف يستخدم السلاح في مرحلة ما، من السيناريو.

شخصيات الفيلم قليلة، ومع ذلك فهناك زخم، وتلاحق في الأحداث، وبدخول ضابط إنجليزي إلى الحكاية، تبدأ تفاصيلها تتجه نحو منطقة التصعيد، يطلب الإنجليزي دليلا يصحبه عبر الصحراء، ليصل إلى نقطة ما، مقابل مبلغ من المال، سرعان ما يقرر حسين أن يكون دليلا للضابط الإنجليزي، ويصطحب معه آخر، لكن الطفل الصغير ذيب تتملكه حالة هائلة من الفضول وعشق المغامرة، فيلحق بشقيقه، رغم المشقة التي يتكبدها، ليروي فضوله في معرفة ماذا يخبىء الضابط الإنجليزي في الصندوق الغريب الذي يحمله معه في حرص شديد، وسرعان ما تتعرض القافلة لمهاجمة قطاع الطرق، ويحدث صدام وتبادل رصاص بين الطرفين، ينتهي بسقوط الضابط الإنجليزي صريعا.

أما ذيب فإنه يهرب من وابل الرصاص بصعوبة بالغة، لكنة يسقط في بئر مياه عميقة.

يقدم المخرج \”ناجي أبو نوار\” واحدا من أهم مشاهد الفيلم، وهي محاولات الصبي الصغير الخروج من البئر، الذي كاد يغرق فيه، لولا غريزة البقاء التي تدفعه لتكرار المحاولة، حتى ينجح بعد جهد مضن في الخروج من البئر، ليجد شقيقه حسين جثة هامدة، يغطيها ذباب الصحراء، وتحوم حوله الصقور، فيقوم بدفنه مستخدما الصخور، ويدرك أنه اصبح وحيدا تماما في هذا الفراغ الشاسع وتلك الصحراء الممتده، التي لا يعرف لها أولا من آخر، ورغم كل هذا، فإن فضوله يدفعه كي يعود إلى جثة الضابط الإنجليزي، ليبحث بين أشيائه على الصندوق الذي كان يخفية بين أغراضه، ويفاجأ الطفل ذيب بأن أحد قطاع الطرق لا يزال على قيد الحياة، لكنه مصاب بطلقة في إحدى ساقيه، تمنعه من الحركه، ويدرك أن هذا الشخص تحديدا هو من قتل شقيقه حسين، ولأن كل منهما (الرجل والصبي) في حاجة للآخر ولو بشكل مؤقت، فإنهما يتفقان ألا يخون أحدهما الآخر، حتى يصلان إلى بر الأمان، بل إن ذيب يساعد الرجل في استخراج الرصاصة من ساقه، قبل أن تلوث كل جسده وتؤدي إلى موته، ربما بحاسته الفطرية، أدرك أن بقاء هذا المجرم على قيد الحياة، هو فرصته الوحيدة للنجاة.

تستمر الرحلة بين القاتل والصبي، ينام كل منهما وعينه نصف مغلقة مثل الذئاب، خوفا من غدر وخيانة رفيق الرحلة، هل تعتقد أن ذيب يمكن أن ينسى ثأر شقيقه؟ وما هي اللحظة الفاصلة التي يتحينها، وهل يمكن أن ينجح فيما عزم عليه، أم أن القاتل سوف يسترد عافيته في مرحلة ما من الرحلة، ثم ينقض علية ليلحقه بشقيقه حسين؟ تلك الأسئلة التي لابد وأنها سوف تدور في رأسك وتجعلك في حالة هائلة من الترقب والتوتر لمعرفة ماذا تخفي الأحداث.

الطفل جاسر عيد من المواهب الإستثنائية، فهو يحمل وجها مليئا بالانفعالات المكتومة التي لا تفصح عن حقيقة ما في صدره، والطريف أنه يواجة الكاميرا للمرة الأولى، وكذلك معظم فريق التمثيل.

يتمتع الفيلم بمستوى حرفي جيد جدا، واستخدام رائع للطبيعة الجغرافية الفريدة للمكان، من خلال عين مدير تصوير نابغة، مع مونتاج ومؤثرات \”صوت الدوامات الرمليى، والرياح، وصدى طلقات الرصاص، وصوت ضربات أجنحة الذباب اللحوح المفترس لجثث القتلى\”، تشعرك بأنك داخل الحدث ولست مجرد متفرج، تتابع عن بعد!

فيلم \”ذيب\” كان لابد وأن يحقق حالة الإعجاب التي نالها في كل محفل أو مناسبة عرض، ويستحق أيضا أن يصل إلى القائمة القصيرة لأوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية، وحتى لو لم يرفع ناجي أبو نوار الأوسكار في نهاية حفل توزيع الجوائز، فيكفيه أن رفع اسم بلاده \”الأردن\” ورفع معها سقف أحلام السينما العربيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top