مفارقة مأسوية:
المحتوى \”الإسلامي\” من الكتابات -قديمة وحديثة- هو واحد من أغزر وأعمق المحتويات المكتوبة في العالم، بل وربما عبر التاريخ كله.. والكتاب المقدس للمسلمين -القرآن الكريم- بدأ بكلمة \”اقرأ\”.
بينما القاريء المسلم حاليا هو \”النموذج\” الأكثر ندرة في العالم الإسلامي، على الأقل في الجانب العربي منه الذي يُفتَرَض -لأسباب تاريخية ولغوية- أن يكون الأكثر إقبالا على القراءة.
من أعراض هذه الحالة الخطيرة أنه بينما يُعتَبَر الكتاب سلعة بائرة في \”سوق المسلمين\” -إلا من رحم ربي- ففي المقابل تُعتَبَر \”كتابات مواقع التواصل الاجتماعي\” سلعة رائجة بغض النظر عن قيمة محتواها.. (وأنا هنا أعني بعض الـposts على facebook وليس المقالات والموضوعات ذات القيمة المنشورة إلكترونيا على مواقع قيّمة)
فترى فلانًا أو علانًا يزحم صفحته الشخصية بـposts دينية تتنوع بين أحاديث خزعبلية مكذوبة -مثل حديث \”أخرجي شعرة من رأسك لتخرجي من الدين\”، وحديث \”وصف جبريل النار للرسول\”-لا يكلف ناشرها نفسه جهد التأكد منها، أو-وما هو أنكى على مرضى الضغط المرتفع- ما يوصف بـposts \”المُحن الديني\”.
فهذا يغازل زوجته بأنه سيسَبِّح بعد الصلاة على أناملها (ولا أعرف كيف سيستطيع التركيز في التسبيح الصراحة)، وهذا يكتب موضوعات طويلة عن صولاته وجولاته في مجال المُحن الديني ليصبح \”نجم فيسبووكي\” له مريدين -أو لنكن أكثر دقة- مريدات قادمات من عالم الـ\”حيييح\” والـ\”مثلًا\” والـ\”النفسية عايزة\”.. وهذا يركب كلاما على صورة لـ\”اللمبي\” في فيلم \”اللي بالي بالك\” وهو يقول \”ألم يعلم بأن الله يرى\”، بينما قام آخر بتركيب كلام على لقطة من فيلم للفنان محمد هنيدي فتراه يقول \”اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا\”، بينما هو يرتدي باروكة مضحكة ويفتعل بوجهه تعبيرات كوميدية!
هل صُدِمت؟ يا عزيزي هذه مرحلة طبيعية انتقلنا لها بعد مرحلة \”الحجاب ومثال الحلوى المكشوفة وتلك المغطاة\”، وقصة الفتاة التي اشترتtablet وسألها أباها لماذا وضعته في جراب، فلما أجابت \”لأحميه\”، قال لها \”هكذا الحجاب يا بنيتي\”.. إلى آخر هذه الأمثلة المستفزة التي تجعل من واحد من أعظم الأديان في تاريخ البشرية مجرد مادة سطحية يمكن تلخيصها في posts وأمثلة أقل من أن توصف بالطفولية والسذاجة.
لقد كنا نضحك قديما على الحلاق الذي يكتب على باب محله \”نحن نقص عليك أحسن القصص\” أو محل العصير ذو اللافتة المكتوب عليها \”وسقاهم ربهم شرابا طهورا\”، أو البائعة التي كتبت على محلها \”بسم الله الرحمن الرحيم. اتق شر من أحسنت إليه. صدق الله العظيم\”، وناشرو الرسالة المزعومة من الشيخ أحمد حامل مفاتيح الحرم النبوي، باعتبار أنهم جهلة يبتذلون الدين، وهو ما يوصف بـ\”جرأة الجهل\”.. والآن نحن نعاني انتقال هذه النماذج لعالم مواقع التواصل الاجتماعي لتحصل على \”فرصتها\” في الانتشار والتوسع.
كذلك من أعراض ما يمكن وصفه بـ\”التسطيح الإلكتروني للدين\”، ما أسميه \”التثبيت\”.
\”قل ورائي: أقسم بالله سأنشر هذا البوست.. آهااااااا..تذكّر أنت أقسمت\” أو \”مرة واحد قال سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم حصل على جبل من الحسنات.. مبروك حصلت على الحسنات\” أوغيرها من بوستات \”المباغتة بالأمر بذكر الله\”.. يا عزيزي الأمر أبسط من ذلك.. أنا عن نفسي يكفي أن تقول لي \”إذكر الله\” لأذكره.. لا داعي لاتباع استراتيجية \”عنصر المفاجأة في تهنئة العريس في الزفة\”!
ولدي بعض الأسئلة لمن يساهمون في نشر هذه \”الفواحش\”:
– هل اتسع وقتك لتضغط زر share لكلام قيل لك إنه حديث نبوي أو قدسي وضاق بك فلم تستطع أن تكتب على جوجول \”مدى صحة حديث كذا\” وتبحث عن تصنيفه في أي موقع ديني متخصص؟
– ألم تشعر بالارتياب من أن قصة الشيخ السُني الذي ذهب لمناظرة بعض الشيعة، فدخل عليهم بحذائه تحت إبطه، فلما سألوه قال لهم \”الشيعة أيام الرسول كانوا يسرقون الأحذية\” فسألوه \”وهل كان من شيعة أيام الرسول؟\” فقال لهم \”إذن انتهت المناظرة.. من أين أتيتم بمذهبكم؟\” قد وقعت بحذافيرها -وفقًا للـposts المتعددة- مع كل من الإمام الشافعي والإمام ابن حنبل والشيخ أحمد ديدات؟!
– هل جربت أن تكتب على صفحتك الشخصية \”اذكروا الله وأكثروا من التسبيح\” أو \”استغفروا الله\” قبل أن تلجأ لـ\”خطة خداع استراتيجي معقدة\” ليكتشف متابعك أنه قد استغفر الله وذكره غصب عنه وأنك -يا خبيث- قد خدعته و\”منحته\” الحسنات بالقوة؟
– بالنسبة للمعلومات من نوعية \”الكائنات الحية كلها تصمت قبل كل فجر تنتظر يوم القيامة\”.. ماذا لو قلت لك إنني أربي قطة وقط، كلاهما لا يحلو له المواء إلا قبل الفجر؟ أرني ذلك العالِم العبقري الذي استطاع أن يراقب كل مخلوق على وجه الأرض ليعلن هذه المعلومة.. ماذا عن معلومة أن من علامات الساعة سقوط سبعة أمراء في المنطقة؟ لقد ذرعت كتاب \”النهاية في الفتن والملاحم\” لابن كثير-وهو الكتاب الأشهر في هذا الشأن- ذهابا وإيابا، فلم أجد مثل هذا الكلام.. لماذا لا تسألون عن مصادر المعلومات قبل نشرها؟
لاحظوا أنني اتحدث عن مجرد \”عرض\” من أعراض كثيرة لمرض خطير.. هذا العرض أدى إلى أن بينما المفترض أن يرتقي التقدم التكنولوجي بالمعرفة والمعلومة حيث إنه يقدم وسائطًا أحدث لها، فإن العكس قد كان معنا، فالتقدم المتمثل في الفيسبووك كوسيط معرفي لم يؤدِ إلا لنشر المزيد من الجهل.
والعيب ليس على الفيسبووك، لكنه على الجهلة والجهل وجرأة الجهل.. وقبلهم على من سكتوا لهؤلاء جميعا!
(يتبع)