\”النبى دانيال\”.. ذلك الشارع المُحبب إلى قلبى وروحى، حيث تقبع الكتب، بمختلف أنواعها فى جانبه الأيمن، تنادينى دائما بإغراء لذيذ، يقع على بدايته يسارا سينما أمير التى اعشقها، ويمينا مركز الإبداع الذى يحتضن أمثالى من الفقراء مُحبى الحفلات الموسيقية الجميلة والمجانية أيضا!
هو بحق يعد بمثابة قلب الإسكندرية، لطالما اعتقدت فى صغرى أن منه امتدت باقى أطراف الإسكندرية شرقا وغربا.
أن تقضى يوم بصحبة النبى دانيال هو المتعة بعينها، ليس الشارع فحسب، بل الديوان أيضا.
منذ فترة ليست بقصيرة وقعت على ديوان شعر بالعامية يحمل نفس اسم شارعى المُفضل، ورغم أننى لست من هواة الشعر العامى ولا اقرأه كثيرا نظرا لما يعتريه من محاولات ركيكة تُسمى بمحض الصدفة \”شعراً\”، إلا أننى انهيت الديوان فى يوم واحد فقط، وهو ما لم اتوقعه قط.
تتسم أشعار الديوان بمسحة من الحزن، ليست بمسحة مُتكلفة أو مُصطنعة، بل تتلاءم مع مواضيع القصائد المُختلفة، فقد أحسست بأن كل كلمة فيه تمس شغاف قلبى، وبأننى قد مررت بما مر به الشاعر من تجارب واقعية وصادقة، شعرت وكأنما هناك أحدهم يعرف بدقة ما يعتمل فى صدرى، وما يدور فى وجدانى، فصاغه شعرا بسيطا، يحمل فى طياته ألما ممتزجا بقليل من التفاؤل.
ابتسمت مع الشاعر ابتسامته المؤلمة وهو يحكى عمن فارقوه من الأحباء حين قال:
\”حضنى الفراق رقّعُه.. بقى زى حتة خيش
سهم المُنى وقعه.. كسر ضلوعه الشيش
والهم مهما اتكوى.. ما بيتوقف له نزيف
كل اللى مسّه الهوى.. قلبه معادش نضيف\”
أصبحت اقتبس من كلماته ما يكفى لأن أحكى حكاياتى فى الحياة بخير ما قل ودل، وأيقنت أنه يخاطبنى حين قال: \”حظك م الدنيا إن إنت هتعشق مهما هتعشق عشقك ليك\”
تمتمت أبياته التى شعرت أنها حكمة صادرة من رجل كبير فى السن، وليست من شاب يصغرنى عمرا فى قصيدة \”اختيار\”، حين قال:
\”صحيح الدنيا سرّاقة
بتزهد فى الدنيا اللى ليك ليها
تقابل ضحكتك بالشُح
صحيح خلقة قلوبنا شمال
أساس كل اختيار مش صح\”
تقربت إلى الله معه بقوله: \”من فرط حبك للإله
شافك فشوفته فى كل ذنب برحمته
من فرط حبك للمفيش
مبقاش فاضل لك
غيرك انت عشان تعيش
فإن جيت تتوب
صدقنى دمعك راح يعيد
كل اللبن من عالتراب\”
وبالرغم من جمال القصائد وروعة تشبيهاتها المجازية، إلا أن انطباعى عن الشاعر من خلال نصوصه جعلنى اشعر بفقره فى مفرداته اللغوية، وتشابُه بعض مواضيع قصائده، إلى جانب ميله الدائم للتفلسف بعض الشىء، إلا إن ذلك –فى اعتقادى الشخصى- خطأ مُتدارك، لأنه لم ينل من فحوى الديوان ومن صدق وجمال قصائده، خاصةً وأن هذا الديوان يُعد التجربة الشعرية الأولى لهذا الشاعر الذى شعرت أن بدايته هذه تعد امتداد للمدرسة الشعرية الجديدة، وإحياء لشعر العامية الذى تم ابتذاله وتناوله وتداوله بركاكة فى موجة غريبة بين الناس، خصوصا الشباب، والذى كان سببا رئيسيا –فى نظرى- لاندثار الشعر العامى وعدم اهتمام الناس به.
من ثم، يُعد هذا الديوان خطوة قوية فى مشوار إحياء الشعر العامى الطويل، الذى يسير على خطاه جيل جديد من الشعراء الشباب، أمثال مصطفى إبراهيم وعمرو أبو زيد، ليسير بمحازاتهم محمد عبدالله حمودة، صانعا من الشعر العامى شكلا جديدا يخاطب به عقولنا وقلوبنا.
أكثر ما أحببت فى الديوان، هو الارتباط الروحى الجلى الذى جمع بين الشاعر ومعشوقتى، الإسكندرية، والذى يمسنى بشكل شخصى لشدة حبى لها، فقد تذوقت عشقه لها فى قصيدته \”إسكندرية\”، خاصة حين قال: \”توهت ف طريقك! لا.. عشقك مكملنى
تعرف تدوق الجهل وسط النبى دانيال؟
تبقى البعيد أعمى!
تابت حروف الآه، على ايد هوى الشاعر
تبت قوافى الخوف.. يا مدينة مالجنة\”
تشعر وأنت تقرأ \”النبى دانيال\”، أن من يخاطبك هو رجل أشيب القلب، يعطى لك خلاصة تجاربه فى الحياة التى نالت منه، وهى سمة عامة يتسم بها جيلنا، نظرا لما رأيناه من خبرات تفوق سنين عمرنا القليلة، فمن منا لم يشعر أنه قد كبر فى العمر فجأة بعد أن تخطى العشرين بقليل، ومن منا لم يسمع أحدهم يخبره:
\”عجزت يا واد
ليه نظرة عينك مش هى؟
ليه شايلة هموم أكبرمنك؟
رغم أن ملامحك لسة شباب
والله أنا شفتك ما عرفتك
لا واللى يزيد الطين بلة
مبقتش بتضحك من مدة\”
يمكننى أن اجزم بصدق التجربة فى كل نص من نصوص الديوان، أن الشعر الكاذب يفضحه زيف إحساس مفرداته، فكما قال حمودة: \”تبت يد الشاعر، لو زَيّف الإحساس\”.