"يا عيسى".. قصة من "رمش العين" الفائزة بجائزة ساويرس

ينبّهني خالد إلى البنت الجميلة التي تصعد إلى الميكروباص، صغيرة تبدو، ربما في الثانوية، صعدَت وجلسَت ورائنا في الكنبة الأخيرة، ثم سألتني فجأة: كم الأجرة يا عمّو؟

عمّو؟!

ينفجر خالد في ضحكة مكتومة وأبتسمُ وأقول للبنت: لا أعرف، سنسأل السائق.

لكني بالأمس لم ابتسم عندما نفثت الخالة دخان السيجارة التي اقترضتها مني وقالت: تزوّج، الحق نفسك، كي لا تأخذ غدا واحدة \”خَرج بيت\”.

هززتُ رأسي لها كأني أشاركها التأفف من خرج البيوت، ولم انطق بالرد البديهي: وما أنا يا خالتي؟ ألستُ كذلك أيضًا؟

لكن صوت فتاة الميكروباص يظل يتردد في رأسي وأنا أصعد سلّم البيت فأبتسم حينا وأقطّب حينا، وأدخل البيت الصامت ولازلت في دخولي كل مرة أتطلعُ نحو الأريكة كأني سأرى سلمى هناك، وكان يضايقني فيما مضى أنني حين أدخل لا تلتفت نحو الباب، وكانت حين تأتي بعدي تدق الجرس فأهرع لأفتح لها فتدخل محمّلة بكل عجيبة تجدها في طريق السوق, فأتناولها منها وأحتضنها وأبتسم لتكشيرتها التعبة وكأن أحدا أرغمها على  ما تفعل، لكني حين كنت أصلُ بعدها كنت أفتح بالمفتاح وأجدها تتطلع في التلفزيون ولا تنظر، اقتربُ منها فتلتفت لي أخيرا بابتسامتها المرهقة وترفع لي ذراعيها كأنها ابنتي، وتخيلتُ مرارا أني أسألها لماذا لا تنظرين إليّ حين أدخل، لكني بعد دقائق كنت أجد الأمر تافها فأحجم أو أتردد أو أنسى، وها هو البيت نفسه والأريكة نفسها لكن التلفاز مظلم ووحيد.

وكان خالد نفسه الذي اصطحبني يومها إلى هناك، طلبتُ رقمه وأتاه صوتي صارخا وباكيا ومذهولا، لكني لم أعرف الذهول الحقيقي إلا حين دخلت الغرفة البيضاء ورفعتُ الملاءة، الجسد كامل أبيض نقيّ بلا خدش واحد، وعرفت أن سيّارة السفر انقلبت على الرمل وكنت أظن الرمل أهون من الأسفلت ولكنه لم يكن، وقالوا صدمة عصبية ونزيف داخلي اختطفا روحها وتركا مظهر جسدها كما عرفته دائما ناعما كاملا، صغيرا هادئا وحنونًا، وهناك اقتربت طبيبة أربعينية وسألت بصوت خفيض: أنت عيسى؟

نظرنا خالد وأنا لبعضنا البعض، وقلت للطبيبة إنني سيف، زوجها.

تغيّر وجهها الأربعيني وقالت البقية في حياتك، وابتعدَت وسط الصراخ المتوافد المتصاعد.

من المدرسة إلى الجامعة إلى بيتنا، من الدروس الخصوصية إلى سكاشن الكلية إلى أن أوصلنا الأهل إلى طرقة غرفة النوم، من هرمونات المراهقة إلى مغامرات الشباب إلى اعتياد البيت، سيف وسلمى،  سيف وسلمى، اسمان كإسم واحد، زواجهما خبر قديم قبل أن يقع، وكانت تداعبني حين أحاولُ إثارة غيرتها فتقول إنها خبّزتني بيديها هاتين، وتبتسم واقفة في المطبخ وهي تضم كفّيها كأنها تخبز أو تعصر، وأمشي وراءها في البيت محاولا  إقناعها بأنني خبأتُ عنها الكثير بذكائي لكن الضحك يغلبني فأدفعها نحو الأريكة وأتمدد في حجرها مستبدلا وجهها بسقف الغرفة، لكنها تتطلع فيّ بنظرة غريبة وتقول فجأة: سيف، لا تَمُت!

يدهشني ويضحكني الطلب الغريب، فأقول لها سأحاول!، ومرات أخرى أسألها بجدية مازحة إن كانت تخبيء عنّي شيئًا، خطة ينتويها أقاربها لقتلي أو ربما مرضا خطيرا أصابني دون أن أدري، فتقطّب تقطيبتها الحلوة وتهز رأسها نفيًا وتقول فقط ابق معي للأبد.

فمَن عيسى إذًا؟ مَن يا سلمى؟

يومها في مستشفى الموت ابتعدت الطبيبة، لكن ممرضة ثرثارة أفضت لي: أدخلناها العمليات وهي تصرخ وتصرخ على كلمة واحدة: يا عيسى!

ولا تكتفي الممرضة العجوز بذلك وإنما تقلّد الصوت وتمد حروفه إلى آخرها :يا عيساااا يا عيسااا.

ولم تقل سلمى شيئا آخر ولم يتأخر موتها في الغرفة الكئيبة. وتسألني الشمطاء: عيسى ..أخوها؟

أهز رأسي بالإيجاب لكن سلمى بلا إخوة، ويأخذني حزن الجنازة ووجع الموت لكني أقف في عزاء الليل ممزقا بين ألم وذهول، بجواري أبوها المهدّم نصافح المعزّين وأتصفح أنا الوجوه بحثًا عن أي عيسى، ليس إلا واحد هرم طاعن في السنّ يتوكأ على أحد أقربائه، وأتابع النظر فلا أجد ما أهتدي به، فأعود إلى البيت قبيل الفجر غير قادر لا على الحزن الكامل ولا على الاستسلام للخديعة، ولولا أن كلا من الطبيبة والممرضة أخبرتني على حدة لقلت اختلط على أحداهما الأمر، وتأتيني صديقة بلهاء بصورة مكبّرة لسلمى \”مزيّنة\” بشريط الحداد فأشكرها ثم أغلقُ على الصورة درج الدولاب، ومر عام واثنان وثلاثة فلا أنا قادر على تعليق الصورة ولا على التخلص منها، وكانت سلمى تقصّ الصور واللوحات من المجلات الفنيّة وترسلني لأحيطها بالبروايز من ورشة قديمة قرب البيت، ويبتسم لي الصنايعي العجوز وأجلس عنده كطفل أرسلته أمه لتسوية الكحك، ثم أرجع بالصور ونعلّقها سويًا فتتأملها بإعجاب كأنها أصليّة، وتسألني رأيي فأبدي إعجابي وإلا فالويل لي.

وليلتها قالت رحلة سريعة إلى مدينة غير بعيدة، رحلة عمل لكنها بدت مبتهجة وأخذت تعدّ السندوتشات للطريق، وأيقظتني مبكرا وقبّلتني في الفراش بين النوم واليقظة، وعدتُ للنوم ساعة أو بضع ساعة حتى تلقيت الاتصال المميت، لم تبتعد السيارة كثيرا خارج مدينتنا، على الطريق انقلبت وانفتحت الأبواب وعلى الرمل رقدت سلمى وبيني وبينها 70 كيلومترا، غرباء نقلوها وغرباء بحثوا في هاتفها وجربوا أرقامه وغرباء كانوا حولها حين أغمضت عينيها، وغرباء سمعوها تنادي على عيسى.

وفكرت أن أسأل صديقة أو أختًا لكني بقيت بين خيوط الخوف والتردد والخجل، وكلما عبرتُ خيطا كنت أعود فأقول وما الفائدة على أي حال، وأتطلع في لوحات الحائط الصغيرة فلا أعرف إن كانت الألوان قد بهتت أم أنها أفاعيل الغبار، وفي ليلة ثملتُ وخالد في بار صغير فاستندت إلى الطاولة ووقفت مترنحا، ثم أخذت أهتفُ في الحضور: حدّ هنا اسمه عيسى؟ يا عيسى؟

فيدرك خالد أنها إحدى الليالي التي سيحملني فيها إلى البيت فيفعل، ويتركني على الباب فأتعثر في إدخال المفتاح حتى أنجح، وأدخل لكني أظل واقفا عند الباب منتظرا أن تنظر سلمى إليّ.

من مجموعة \”رمش العين\”

محمد خير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top