مشهدان بينهم ما يقرب من ثلاثة عقود جرى فيهم الكثير؛ مشهد أول هادئ لعائلة فقيرة لا تجد مكانا لولادة طفلها، فتلجأ الأم لمزود أبقار ويولد الطفل الذي ستغير كلماته وأفعاله شكل العالم كما كان معروفا وقتها، ثم…\”وفيما هو يتكلم، إذا يهوذا أحد الإثنى عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب\” متى 47:26
مشهد ثان مزدحم: تلميذ خائن، جمع كثير يقف من ورائه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، سيوف، عصي.. أطراف عدة خرجت للقبض على ذلك الطفل الفقير الذي أصبح شابا، أصبح معلما فقيرا يتبعه تلاميذ قليلون فقراء مثله، لماذا كل هذه الضجة؟ لماذا كان \”رؤساء الكهنة والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه ولم يجدوا ما يفعلون لأن الشعب كله كان متعلقا به يسمع منه\” لوقا 48.47:19
لماذا \”يرسلون جواسيس يظهرون أنهم أبرار لكى يمسكوه بكلمة حتى يسلموه إلى حكم الوالى وسلطانه\” لوقا 20:20
صفوة السلطة والثروة؛ رؤساء الكهنة، الكتبة، الفريسيون، وجهاء الشعب يتآمرون، يرسلون جواسيس، يحاولون الإيقاع به وتسليمه للسلطة الرومانية، يطلبون أن يهلكوه، جميعهم رغم إختلافاتهم يتحدون ضده، هم جميعا فى جانب وهو والشعب كله الذي كان متعلقا به يسمع منه فى الجانب الآخر.
مرة أخرى لماذا؟ هل لأنه كان يجول يصنع خيرا؟ نعرف أنه كان \”يجول يصنع خيرا ويشفي كل ضعف فى الشعب\” ولكن دعونا نسمع إجابة الكهنة والكتبة ووجهاء الشعب أمام بيلاطس الوالي الروماني \”إننا وجدنا هذا يفسد الأمة، ويمنع أن تعطى جزية لقيصر، قائلا إنه هو مسيح ملك\” لوقا 2:23 بل ويشددون القول \”إنه يهيج الشعب وهو يعلم فى كل اليهودية مبتدئاً من الجليل إلى هنا\” يوحنا 5:23
يبدو أن المعلم الفقير لم يكن فقط يشفى مرضى ولكنه كان يعلم ما اعتبروه \”إفسادا للأمة \” و\” تهييجا للشعب \” في كل اليهودية، كان يتحدث عن الجزية والقيصر، عن الأغنياء ورؤساء الكهنة، عن الحرية.. إنه \”تكدير للسلم العام\”. هذا هو الخير الذى كان يفعله إذن، إنها رسالة الحرية الأولى التي قرأها حين دخل المجمع اليهودي ودفع إليه السفر ليقرأ للمرة الأولى \”روح الرب علىَّ، لأنه مسحني لأبـشـر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية وأكـرز بسنة الرب المقبولة\” لوقا 17:4
تقرأ الكنيسة المصرية هذه الكلمات فى إنجيل اليوم الأول من السنة القبطية – حتى وإن تناسى ذلك بعض رجالها الآن – لتذكر بأن هذه الرسالة هي مهمة العام كله والحياة كلها، إنها رسالة إطلاق المأسورين وتحرير المنسحقين، لم يكن المسيح هنا يتحدث عن معنى \”روحي\”، إنه يتحدث عن مأسورين حقيقيين وحرية حقيقية في مجتمع ظالم، إنه يتحدث عن سنة الرب المقبولة التي تسقط فيها الديون المادية عن أصحابها على حسب التقليد اليهودي، لم تكن رسالة روحية فقط وإلا ما أنزعج رؤساء الكهنة ووجهاء اليهود وأغنياؤهم والسلطة الرومانية، إنها رسالة تغيير وعدالة وكرامة وحرية تدعو أن يكون الكل متساويين وأحرارا.
لم يكن الخير الذى يجول يصنعه، هو هذا التصور البسيط الإستعلائي للخير، خير الصدقة أو مساعدة المحتاجين، فلم يكن لديه ما يعطيه صدقة، ولا حتى هو شفاء الأمراض فقط ، إنه خير التغيير الكامل لحياة البشـر/ البشرية، خير تطهير الحياة من الداخل ومن الخارج على السواء، إنه خير الثورة على إنسانية مهانة مستعبدة، إنسانية أبنائها مساكين ومنكسري القلوب، مأسورين وعمي ومنسحقين، إنسانية مقيدة بقيود رجال الدين اليهود ومعهم التجار والسلطة السياسية الرومانية.
دعونا نحاول أن نرى بعض هذا \”الخير\” الذي كان يجول يصنعه، علنا نفهم بشكل أفضل لما كل هذا الغضب على طفل المزود الفقير من وجهاء الشعب!
الحيات أولاد الأفاعي:
صدام مباشر لا هوادة فيه مع رجال الدين اليهود الذين جلسوا على كرسي موسى \”يقولون ولا يفعلون، فإنهم يحزمون أحمالا ثقيلة عسيرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم\” متى 23، إن المسيح يواجههم بكل عيوبهم: \”إنهم يغلقون أبواب ملكوت السماوات قدام الناس، يأكلون بيوت الأرامل، يصفهم بأنهم جهال وقادة عميان\” متى 23، يقول لهم \”ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تعشرون النعناع والشبث والكمون وتركتم أثقل الناموس (الشريعة): الحق والرحمة والإيمان\” متى 23:23، إنه يخبرهم أنهم مثل القبور المبيضة من الخارج يظهرون للناس أبرارا، ولكنهم من داخلهم مشحونين رياء وإثما ويسألهم \”أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم؟\” متى 33:23
أظن أن المسيح لم يستعمل هذه اللغة القاسية العنيفة إلا مع هؤلاء، إنه ينتصر للناس، إنه يهاجم مظهريتهم، يهاجم تمسكهم بكل ما هو شكلي، إنه يبحث عن ما يستحق: الحق والرحمة والإيمان.
إنه فى كل مرة يتحدث معهم يخبرهم إنهم مرؤوان، ويخبر تلاميذه \”أن يحترزوا من تعليمهم\” متى 16، بل حتى في إحدى معجزاته حين شفى تلك المرأة المنحنية التي لم تقدر أن تنتصب البتة لوقا11:13 واغتاظ رئيس المجمع، لأن يسوع أبرأ فى السبت \”فأجابه وقال: يا مرائي، ألا يحل كل واحد منكم في السبت ثوره أو حماره من المزود ويمضي به ويسقيه؟ وهذه وهى ابنة إبراهيم، قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت؟\” لوقا 13، إنه وكما في كل مرة ينتصر للناس في وجه سُلطة جائرة، إنه يوبخ رئيس المجمع الديني ويشفي المرأة المنحنية، إنه كما يرفض إنحناء المرض يرفض أيضا إنحناء القهر وعبودية الحرف، إنه يرفض إنحناء النفاق للسلطة أيا كانت.
لم يصطدم فقط مع رجال الدين، ها هو يرد على من ذهبوا يطلبوا منه أن يرحل، لأن هيرودس الوالي الرومانى يريد أن يقتله \”أمضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أخرج الشياطين وأشفي اليوم وغدا، وفى اليوم الثالث أكمل\” لوقا31:13، إنه يبعث رسالة للوالي الروماني واصفا إياه بالثعلب، ويرفض الهرب ويعلن أنه مستمر في رسالته في صنع الخير كما يراه حتى المنتهى.
الكتبة والكهنة والوالي الروماني وأيضا محتكرو الثروة إنه يعلن صراحة أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غني إلى ملكوت الله متى 19، إنه يأخذ سوطا ويطرد التجار والصيارفة/ رجال أعمال زمنه من الهيكل رافضا أن يتحول من بيت صلاة إلى مغارة لصوص متى 21
إنه يبحث عن الحق والرحمة والإيمان، لا يخشى الوالي ولا وجهاء الشعب ولا الكهنة ولا التجار، يعرف نتيجة ما يفعله ولا يخشاه، بل ويزرع الشجاعة في قلب تلاميذه \”لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد\”.
هل بعد كل هذا يمكن أن يحبه هؤلاء؟
كانوا يعلمون أنه إما وجوده أو إمتيازاتهم، لم يعد هناك بديل فذلك \”الخير\” الذي يجول يصنعه، يضيع كل مكاسبهم، فخيره يساوي بين الجميع، إنه لا يحابي بالغني أو السلطة، إنه جاء للجميع، يطلب الحياة للجميع، \”الخير\” يصنعه للجميع.
ثوب جديد:
لم يكن صدام السيد المسيح فقط مع أصحاب السلطة بتنويعاتهم، الأهم أنه كان مع ما رسخ عند مجتمعه من أفكار، ها هو يعلن أن أبوة الله للجميع، إنه لم يعد هناك شعب مختار، ها هو يخبرهم أن \”ملكوت الله يُنزع منهم\” متى 23:21، وأن \”العشارين والزواني يسبقونهم للملكوت\” متى 31:21، \”هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، متى رأيتم إبراهيم واسحاق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وأنتم مطروحون خارجا، ويأتون من المشارق والمغارب ومن الشمال والجنوب ويتكئون في ملكوت الله\” لقد صار الملكوت للكل، لكل البشر من كل أقطار الأرض.
ها هو يتحدث مع \”امرأة سامرية\” يوحنا 9:4 لتسأله هي كيف يسألها وهو \”يهودي\” وهي \”سامرية\” – وكان اليهود شديدي العنصرية تجاه السامريين- ويتعجب تلاميذه كيف يتحدث مع \”امرأة\”، إنه يرفض مفاهيم بالية، إنه ينتصر للإنسان أيا كان جنسه أو نوعه أو عقيدته، فلا يفرق بين يهودي وسامري وأممي، لا يفرق بين رجل أو امرأة، الكل مدعو أن يتبعه، يسخر من قبليتهم الحادة وذكورية مجتمعهم ويعلن أن القريب هو الإنسان/ الآخر بغض النظر عن جنسه أو عقيدته أو لونه.
ها هم اليهود يحضرون له من أُمسكت في ذات الفعل؛ زنا، جريمة ضخمة في مجتمع قبلي ذكوري، ويطلبون رجمها كما علم موسى، فيطلب أن يرجمها أولا بحجر من كان منهم بلا خطية، وحين انصرفوا جميعا يسألها: \”أما دانكِ أحد؟ فقالت لا يا سيد، فقال لها يسوع: ولا أنا أدينك، إذهبى ولا تخطئِ\” يوحنا 8.
هل هذا الشخص الذي يرفض إدانة من يراها المجتمع مجرمة ويرفض تنفيذ ما علمه موسى، هو نفسه الذي كان يهاجم الكتبة والفريسيين وهيرودس، هل هو من كان يحمل السوط في الهيكل ليطرد التجار منه؟ نعم هو هو، ولكنه يعيد ترتيب أولويات الحياة ويعطي الأشياء قدرها، فالسوط للتجار/ اللصوص واللغة العنيفة لمن يسيئون استخدام السلطة وليس لتلك المرأة البسيطة حتى وإن رأوا أنها أخطأت.
\”إنه يجلس مع الخطاة\” لوقا 27:5، إنه دائما يفعل ما لا ينتظرون أو يريدون، إنه لا ينافق رؤساء الكهنة أو الدولة الرومانية ويحنو على من أُمسكت في ذات الفعل.. إنه يرفض وضع \”رقعة جديدة\” على ثوب قديم لوقا 36:5، فالترقيع لن يصلح شيئا، إنه يريده \”ثوبا جديدا\”/ حياة جديدة، إنه يريد حرية وكرامة لكل البشر، إنه يدعو \”المساكين والجُدع والعرج والعُمى وكل مهمشى زمنه\” لوقا12:14، رغم أن بعضهم هتفوا أمام الوالي الروماني \”أصلبه.. أصلبه.. دمه علينا وعلى أولادنا\”، صنع \”ثورة\” من أجلهم، إنه يحبهم رغم كل شئ ويطلب الحرية للجميع حتى من أفكار أو عادات أو ممارسات تستعبدهم، إنها حرية مجد أولاد الله.
نعم لقد كان المسيح يفسد الأمة ويهيج الشعب كما قال كهنة اليهود، لو كان بيننا الآن ربما كانت ستذاع له مكالمات تليفونية مسربة، أو ربما كان زميلا لعلاء عبد الفتاح في زنزانته بتهمة تكدير السلم العام، كان يفسد أمة غابت فيها إنسانية الإنسان وكرامته وحريته، كان يفسد أمة رؤساء الكهنة والتجار والرومان، كان يفسد أمة كل من أو ما يستعبد الإنسان، ينتصر للإنسان فى وجه كل هذا وكل هؤلاء.. \”لقد أتى ليكون لهم حياة ويكون لهم أفضل\” يوحنا 11:10 إنها حياة الآن ودائماً.
وهو يطلب من كل من تبعه أن يحمل رسالته، أن يتاجر بمعارفه ومواهبه وحماسه وإنسانيته ويربح بها حرية وكرامة، أن يبشر المساكين، يشفى المنكسري القلوب، ينادى للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر ويرسل المنسحقين فى الحرية ويكرز بسنة الرب المقبولة.
إنها دعوته/ رسالته في الميلاد ودائما، يحملها فقط من يصدقون قيمها بغض النظر عن دينهم: الحرية والكرامة والعدل، كل عام وجميعهم بخير.