أثار الحكم الأخير بحبس الباحث الشاب إسلام بحيري لمدة سنة بتهمة إزدراء الأديان موجة من ردود الأفعال المتباينة، لكن الملاحظ –حتى بغير تدقيق- يرى أن غالبية ردود الأفعال مؤيدة للحكم، ومعظم المعلقين على شبكات التواصل الاجتماعي يرون أن هذا الحكم جزاء وفاق لما اقترفه بحيري من \”جرائم\” في حق الإسلام وعلمائه الأوائل ومشايخه، وقد أثار هذا حفيظة مؤيدي بحيري والمتعاطفين معه، حيث لجأوا لخطاب \”دواعش بيننا\” الشهير، لكن الوضع أعقد من مجرد الاستياء من مؤيدي حبس بحيري واحتقارهم، ولا مفر لنا، معشر المؤمنين بضرورة التجديد الديني ممن لم يهجروا البلاد بعد، من تحليله تحليلا دقيقا، للوقوف على أسبابه أملا في تغييرها في يوم من الأيام.
مبدأيا، فإن العداوة والبغضاء التي في صدور ملايين المصريين تجاه إسلام بحيري غير موجهة إلى شخصه، ولكن إلى نشاطه الذي اشتُهر به: محاولة تنقيح التراث الديني وتنقيته مما يراه –أي بحيري- مقحما على الدين مشوها له منتقصا من هيبته، فكل من حاول فعل ذلك قوبل بعدائية شديدة، وما فرج فودة ونصر حامد أبو زيد عنا ببعيدين. وهنا يبرز السؤال المحوري: \”لماذا يكره المصريون التجديد الديني؟\” هذا هو اللغز الذي سأحاول فك طلاسمه في هذا المقال.
أبسط الأسباب وأولها هو النزوع الطبيعي لتقديس تراث الأجداد، قاعدة \”بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون\” التي قلما يخلو منها مجتمع ولا سيما تلك المجتمعات التي تسيطر عليها ثقافة ريفية أبوية محافظة.. لا أحد يحب أن يترك منطقة الراحة التي تعود عليها وألفها إلى أخرى لم تُستكشف بعد، خاصة وأن رؤوس المنظومة الدينية السائدة بشقيها الأزهري والسلفي لا يفتأون يذكرون الناس بحديث الفرقة الناجية، وبالخط المستقيم الذي يهلك من حاد عنه ذراعا أو شبرا، ويتوعدون المجتهد المخطيء بالويل والثبور بدلا من الأجر الواحد.
السبب الثاني هو أن أكبر ثلاث قوي سياسية منظمة وتمتلك أدوات لصياغة الرأي العام المصري، وهم –على الترتيب- الدولة وتيارات الإسلام السياسي والمملكة العربية السعودية (والأولى تفقد استقلاليتها لصالح تبعيتها للأخيرة يوما بعد يوم)، حريصين على بقاء الدين على نسخته التقليدية الأثرية الموروثة، لكن بينما قد لا يحتاج هذا التشبث بالدين الموروث من جانب الإسلاميين (بما لهم من انتشار في مختلف قطاعات المجتمع وسيطرة على أعداد ضخمة من أئمة المساجد ومنابر العمل الأهلي والخيري) ومن جانب المملكة العربية السعودية (صاحبة أكبر جالية مصرية عاملة ومقصد ملايين المصريين سنويا للحج والعمرة والراعي والممول الأول للتيارات السلفية في جميع أنحاء العالم) إلى تفسير، حيث إن الدين هو المبدأ المؤسس لهذه الجماعات/المملكة، وأي محاولة لتغيير شكل الدين أو لتطويره تهدد تماسك الجماعات/المملكة، بل ووجودها نفسه، فعلى الصعيد الآخر يستحق موقف الدولة منا وقفة متأملة.
الدولة المصرية حرصت دائما على مقاومة نزعات \”المروق\” من الدين على اختلاف صورها، من سماحها باضطهاد وملاحقة نصر حامد أبو زيد مرورا بحملاتها للقبض على الملحدين وحتى ما يحدث الآن لإسلام بحيري، وذلك حتى في أثناء أشد معاركها ضراوة مع الجماعات الدينية التي تتخذ عليه مسوغا لطلب الحكم، ولذلك عدة أسباب: أولا، فالدولة المصرية ليست كيانا متجاوزا منفصلا عن المجتمع، بل هي مكونة من مواطنين من صلب المجتمع متشربين بثقافته، بل وعادة ما يكونوا منتمين لجناح اليمين المحافظ من المجتمع، وثانيا، قطعا للطريق على أي إمكانية للمزايدة عليها دينيا من قبل خصومها الإسلاميين واتهامها بالتفريط في الدين، وثالثا، أن الدولة بطبيعتها معادية لكل من يحاول التفكير خارج الصندوق والتغريد خارج السرب، فهدف الدولة الأسمى هو خلق مواطنين عبارة عن نسخ متطابقة ذات مواصفات قياسية، ومن أهم عوامل نجاح خطتها هذه هو وجود نسخة معتمدة واحدة فقط من الدين والقضاء على أي محاولات لإيجاد نسخ أخرى، ورابعا، فالدولة لا تعرف إلا المؤسسات ولا تفهم الدوافع الفردية ولا تستسيغها، ولذا ففكرتها الأمثل عن الدين هي ذلك الدين المؤسسي الذي يتبع الفرد فيه المؤسسة اتباعا تاما، فيكون في مقدور الدولة التفاهم مع رؤوس هذ المؤسسات وعقد الصفقات معهم وتهديدهم وحتى التنكيل بهم إذا تطلب الأمر، هذا هو الشكل الذي تعودت عليه الدولة من أتباعها (كالأزهر والسلفية السكندرية) أو حلفائها (كالكنيسة) أو حتى خصومها (كجماعة الإخوان المسلمين)، أما أن تظهر نزعات دينية فردانية يكون فيها المرء سيد نفسه وصانع قراره فهذا يسبب للدولة إرتباكا شديدا لن ترضى به أبدا، وخامسا وأخيرا، أن النسخة السلفية السائدة حاليا من الدين تعلي من قيمة الخضوع لولي الأمر وعدم الخروج عليه تحت أي ظرف ومهما اقترف من فظائع.
السبب الثالث لرفض عموم المصريين للتجديد الديني، هو أن نسبة كبيرة ممن برزوا في ساحة التجديد الديني، كانوا ممن حصلوا علومهم خارج الدوائر التقليدية لتحصيل العلوم الشرعية (أو من طلاب العلم الشرعي المتقاربين مع هؤلاء فكريا) وممن لا يراعون مظاهر التدين الشكلي ولا تبدو عليهم معالم التقوى الظاهرة، مما أعطى انطباعا أن هؤلاء لا يريدون إصلاح الدين بقدر ما يريدون تحييده وتقليص مساحات سيطرته على الحياة والفضاء العام، كما أن كثرة الحجج التي ساقها هؤلاء واختلافها (من إنكار للسنة واكتفاء بالقرآن لرفض أحاديث الآحاد للتأويلية المقاصدية للقول بتاريخانية الشريعة لتقديم النقل إلى العقل… إلخ) أكدت الانطباع العام أن مقصدهم ليس تقويم الدين عن قناعة بأن ما يحاجون به هو صحيح الدين، وإنما هي محض عمليات تشغيب وتخريب عشوائية للدين بغرض هدمه والقضاء عليه.
السبب الرابع -وهو مكمل للسبب الثالث- أنه كما أن كُتاب الخيال الأنجح هم الذين يخلقون عوالم متكاملة مليئة بالتفاصيل الدقيقة المغزولة بعناية (من أمثال جورج لوكاس وتولكين ورولينح وجورج مارتين)، فعالم الدين الذي يمتلك السردية الأضخم والأدبيات الأغزر والأكثر تفصيلية هو الأكثر إقناعا وتأثيراً. تفصيل ذلك أن معظم الطروحات التجديدية التي تم تقديمها غير مكتملة، تتناول المنظومة الشرعية المتداولة بالنقد والتفكيك دون أن تقدم بديلا متكاملا، وعموم المصريين تعودوا على أن يحكم الدين مساحات واسعة من حياتهم اليومية وهم غير مستعدين نفسيا لانسحاب الدين من هذه المساحة -وهذا أحد أسباب رفضهم للعلمانية مثلاً- وبالتالي فالطروحات الدينية المقبولة عندهم هي تلك التفصيلية التي راكمت عبر السنين آلاف الأحكام في دقائق الأمور وصغائرها، هذا الحجم شديد الضخامة والتفصيل من الأدبيات الشرعية التقليدية يشبع عند المصريين رغبتهم في حكم مجالهم الخاص والعام كما أنه يؤكد على انضباط العلوم الشرعية التقليدية وتفوقها على \”ترهات\” المجددين، فحتى يأتي القرآنيين مثلا بعمل ضخم مماثل في الحجم لموسوعة فقه السنة للشيخ الإخواني سيد سابق يحتفظ به المسلم العادي في بيته ويرجع إليه كلما اختلطت عليه مسألة في الزواج أو الطلاق أو الطهارة أو الصيام فلن يؤخذوا بجدية.
السبب الخامس هو أن الدين بنسخته السلفية التقليدية السائدة يغازل جميع مراكز القوى المجتمعية ويصادف في نفوسها أهواءً، فهو يثبت سلطة الحاكم ويمنع الخروج عليه، ويتسامح مع التوزيع الجائر للثروات ويعتبره من قبيل رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات في بروتستانتية يعشقها الأثرياء، ويثبت سلطة الرجل الكاسحة على زوجته وأولاده، ويؤكد للأغلبية المسلمة السنية على تفوقهم الأخلاقي على الأقلية المسيحية (ولا مجال بالطبع للحديث على \”الأغيار\” عديمي الحقوق من البهائيين والملحدين والشيعة)، لا لشيء إلا لأنهم ولدوا فلقنهم ذووهم الشهادتين فنطقوهما.
السبب السادس هو أن سيطرة الدولة على المؤسسات الدينية في البلاد بدلا من العكس حيّد العديد من نقاط التماس بين الدين والشأن العام والتي كانت لربما شكلت مشكلة حقيقية عند قطاعات واسعة من الشعب لو تم فيها تطبيق الأحكام الشرعية الكلاسيكية، فالدولة لا تنساق وراء ألوية الجهاد ولا تسوق تحته مواطنيها لحروب دينية مدمرة (ومشاركتها في الحلف الإسلامي الذي تكون مؤخرا كان لأهداف اقتصادية بحتة)، والحدود الجنائية معطلة، والأزهر –وبالأمر- أصدر فتاوى تبيح التعامل بالفوائد البنكية، وسكت ولم يُثر ضجة واسعة حول قضايا مثل التدخين وإباحة بيع الخمور وشربها واختلاط المرأة بالرجل في أماكن العمل والدراسة ومنع ضباط الشرطة الملتحين والتطبيع وعشرات الأمثلة الأخرى التي لو تُرك فيها الأمر لرجال الأزهر ومراجعهم وحواشيهم الأصولية لخاضوا ضدها حروبا ضروس، ولكان ذلك دافعا لقطاعات من المصريين لتقبل –بل وربما طلب- التجديد الديني، ولكن كان في كبح الدولة لجماح المشايخ ما يغني عن أي محاولات فردية أو مستقلة للتجديد الديني.
السبب السابع هوعملية \”مونتاج\” ممنهجة للتاريخ الإسلامي جعل منه تاريخا ناصع البياض كملابس الحجاج وأجنحة الملائكة، يخلو من الهنات والزلات التي لا يخلو منها تاريخ أي أمة في العالم. قراءة مجتزئة تركز على مواطن القوة والخيرية وتأتي عند لحظات الشقاق والانهيار فتجعلها نتيجة للخيانات والدسائس من شخصيات لها قدرة خوارقية على التآمر كعبد الله بن سبأ (ويا حبذا لو كانوا شيعة كابن العلقمي ونصير الدين الطوسي).. تلك القراءة التي ساقتها تيارات الإسلام السياسي لتخدمها سياسيا في تسويق مبدأهم المؤسِّس في كون \”الإسلام هو الحل\” ثبت عند عوام الناس فكرة مفادها أن علوم الإسلام لا تحتاج إلى أي شكل من أشكال التجديد ولكننا –على العكس- نحتاج إلى المزيد من الأصولية والعودة لما كان عليه أجدادنا لنستعيد مجدنا التليد.
في الخاتمة، فالتجديد الديني، شأنه في ذلك شأن أي اتجاه فكري مؤثر على الشأن العام، لا يحتاج إلى مجرد المناداة به من قبل الباحثين وطرحه في قاعات المناظرات، بل يحتاج إلى قوى اجتماعية ضخة ومؤثرة تدعمه وترى فيه حلا ناجعا لمشاكلها وأزماتها، وهو ما لا يتوفر حتى لحظتنا هذه في مصر، حيث التجديد الديني –للأسباب التي تم سردها- قضية لا تهم إلا خواص المثقفين وذوي النزعة الإنسانوية وما أقلهم في مجتمعنا.