تعانق الهلال والصليب في صور كثيرة وفي عبارات المعايدة هذا العام، فقد شاءت ظروف لا تتكرر إلا نادرا أن يكون ميلاد السيد المسيح والنبي محمد هذه السنة في نفس الأسبوع.
تبارى الكثيرون ممن ما زالوا يؤمنون بالتنوع والتسامح في بلادنا بتمني السلام والحب لبعض، سواء على صفحات التواصل الاجتماعي، أي في الفضاء الإفتراضي، أو من خلال تزيين بيوتهم بطريقة مستوحاة من النمطين الإسلامي والمسيحي معا، فظهرت النقوش الإسلامية والخط العربي على خلفية شجرة عيد الميلاد، أو لبست عروسة المولد المشهورة في مصر فستانا على شكل شجرة الأرز المزينة بكرات ملونة، وسادت عبارة \”ميري مولد\”، نسبة إلى خلط عبارتي المعايدة في الديانتين. في بعض الأحيان، تبادل الناس الحلويات المختلفة، فأهدتني صديقتي المسيحية علبة من حلاوة المولد وأعطى أطفالي لأطفالها شوكولاتة على شكل بابا نويل.
كثيرا ما يظهر عند بعض الشرائح المجتمعية التي تبدو أنها أكثر انفتاحا في البلاد العربية جهدا قد يكون مبالغا فيه لإظهار حب مجموعة دينية لأخرى، وتكون هذه الجهود على الأغلب فردية إنسانية ويتم التعبير عنها بشكل علني، حيث بات الفيسبوك اليوم أداة لنشر المواقف الشخصية على الملأ، فتملأ صور الكنيسة والجامع معا، أو القسيس والشيخ وهما يتصافحان الفضاء الافتراضي، ويصدح ترتيل كنسي على خلفية التكبير في شريط مركب، فننتعش من خلف شاشاتنا ونعيد تكرار هذه المشاهد والموسيقى للدلالة على احتضاننا للآخر المختلف، ووسع قلبنا لمن يسبح بحمد ربه بطريقة تختلف عن طريقتنا.
لقد كان هذا الأسبوع أسبوعا مكتظا بأساليب عبر فيها المسلمون والمسيحيون عن احترامهم لشعائر وأعياد بعض، وليس فقط على وسائل التواصل الاجتماعي، بل في مواقف تهدد الحياة حقا، حيث قرأ الكثيرون قصة الباص الذي أوقفه جهاديون متشددون في كينيا بغية التعرض لركابه المسيحيين، فهب الركاب المسلمون يدافعون عنهم.
وبعيدا عن الحديث عن التوظيف السياسي للدين، وعن تفنن الدول القمعية عموما في استخدام القيادات الدينية الرسمية، فهناك ما يدعو فعلا للتأمل في حالة النشوة التي تسيطر على بعض النخب الاجتماعية والثقافية هذا الأسبوع عند تأكيدهم على روح الأخوة العابرة للأديان في البلد الواحد. فقد اندفع الكثيرون وراء العبارات اللطيفة وانبروا يرددون التهنئة ويظهرون معرفتهم بديانة الآخر وكأنهم وبدون هذا التعبيرالصارخ في الفضاء الإفتراضي، فلن يعرف المسلم أن جاره المسيحي يحترمه، والعكس بالعكس.
هناك شيء مريح في تناسي الكثير من مصادر التوتر، وتناسي أن المنطقة العربية تمر اليوم بما قد يكون من أحلك مراحلها، وأن مستوى التوتر الديني والطائفي والشحن المجتمعي بلغ الأوج. هناك شىء مريح في الاختباء وراء عبارات معايدة لطيفة. هناك شيء مريح في إعادة تدوير بعض الصور الجميلة لجرس الكنيسة الذي يظهر من وراء المأذنة، أو في الاستماع مجددا لذلك المزيج الرائع بين الآذان وترتيلة الآفي ماريا.. يشعر أحدنا أنه وبكبسة زر الكمبيوتر قد برهن، لمتابعينه وأصدقائه، أنه متفتح، متسامح مع الأديان عموما، واسع الصدر يحتضن أخاه في الوطن حتى لو لم يكن أخاه في الدين.
لكن كيف نقفز من هذه المجاملات إلى أخوة فعلية في الوطن؟ كيف نبرهن أننا، حتى خارج موسم العيد، شركاء حقيقيين ولسنا فقط جيران اخترنا أن نظهر لبعضنا الود رغم اختلاف مللنا؟ الحل يبدأ في القوانين والتشريعات التي يجب أن تسن دون تفرقة بين الأديان والأعراق بل حتى دون تفرقة بين الجنسين. أول الخيط أن يكفل القانون الحقوق والحماية للمواطن لأنه مواطن، ويلزمه بمسؤوليات وواجبات يتساوى فيها مع الجيران سواء كانوا من دينه أو من غيره، ثم أن يطبق نظام ضريبي على الجميع فيكفل للجميع حياة كريمة تؤمنها الدولية جزئيا من مردود الضرائب، فتساعد في التعليم والعلاج، وليس تعليم وعلاج على الورق فقط، كما هو الحال في بلادنا ذات الخدمات المهترئة، إنما تعليم وعلاج مستواهما معقول، لا يضطر المواطن معهما أن يهرول نحو حلول بديلة، غالبا ما أصبح يجدها لدى الجمعيات الخيرية ذات الطابع الديني.
أخيرا، وربما أكثر الجوانب صعوبة، هو كيف سيمكن لمجتمعاتنا بناء دول مدنية لا تستعمل فيها فئة أو أخرى فهما معينا للدين تحاول فرضه على كل المجتمع الذي تتنوع دياناته، بل وتتنوع أشكال فهم الدين ذاته بين أتباعه. ستظل الأديان ملهمة للقوانين، لكن القوانين والسياسات يجب أن تكفل لكل مواطن حق ممارسة شعائر دينه بسلام ومساواة مع الأديان الأخرى على أرض الدولة، وإلا فما فائدة أن أهدي صديقتي شوكولا على شكل بابا نويل طالما هي ليست قادرة على ممارسة دينها بشكل مريح باقي أيام السنة؟
التعايش بين الأديان يسبقه إمكانية التعايش بين البشر، بغض النظر عن دينهم.. التعايش بين الأديان حين يتم اختصاره بزينة موسمية ومعايدات لطيفة، لن يحل مشاكل مجتمعية أصبحت مزمنة في بلاد شعوبها متنوعة المذاهب.. التعايش بين الأديان موضوع أكثر عمقا ويحتاج سياسات أكثر حكمة في منطقة تمزقها اليوم الحروب التي تم توظيفها لأغراض دينية ومذهبية.. ففي بلاد المواطنة المتساوية، احتفل المسيحيون بليلة ميلاد السيد المسيح، واحتفل المسلمون بالمولد النبوي الشريف، دون بلبلة ومظاهر مبالغ فيها، لا سيما في الفضاء الافتراضي.. هناك، تم حسم المواضيع حين تطور مفهوم الدولة والمجتمع معتمدا على مبدأ المواطنة كأساس لمجتمع صحي ولعلاقة سوية بين الفرد والدولة وبين أفراد الدولة الواحدة.
هناك فعلا يتعايش الناس ربما لأنهم مضطرون لذلك بسبب القانون، وهم قطعا مرتاحون في حياتهم اليومية من ناحية علاقتهم بالدولة ، والعلاقة بالجيران، رغم تسرب بعض الحالات الخاصة التي تصل إلى مسامعنا فنطبل ونزمر بها لنقول \”إنهم هناك فعلا عنصريون\”، وكأنما أيضا نهمس لأنفسنا: \”لسنا فقط من يعاني من هذا الداء\”.