المشهد أصبح مكررا وسخيفا: أقابله في حوش العمارة، حارس جديد للعقار، بواب يعني، ممسكا بالمقشة التي ستصبح أداته الرئيسية، يكنس ترابا وهميا لا ينتهي، لأن انطباعات أول يوم تدوم أكثر، أتعرّف عليه، شقتي جنب الحاج فلان، أصافحه وأشد على يده مشجعا، ابتسامة حارة يائسة، لا يكترث لأنه مر بهذا من قبل، بعض السكان يحبون الشرطي الطيب، بعضهم مر لابسا وجه الشرطي السيء، لهذا يتمسك أكثر بالمقشة والتراب الوهمي، جواز مروره بهذا اليوم.
قد أكتب هذه السطور على الفيسبوك منتهيا بالعبارة الخالدة: #الحياة_قاسية_على_الجميع.. لكن في الحقيقة هذه هي أفضل لحظات حياته مقارنة بما سيأتي.
………………..
فشلت في إحصاء عدد الحراس الذين مروا بالعمارة منذ سكنت بها قبل 8 أعوام، بعضهم لم يكن يكمل الأسبوع، عادة يكون هؤلاء من المتزوجين حديثا، يكتشف مع زوجته الأزمة سريعا فيعيدها إلى البلد ويحاول هو العودة للعمل في الفاعل حتى يستعيد توازنه من جديد.. تنحصر الخسارة في تكلفة المواصلات.
عندما تكون على باب الله وفي رقبتك عائلة، فإن أي شكل هندسي له 4 جدران وسقف إسمنتي سيكون جذابا ومغريا، هذا الدفء سيشجعك على استكشاف الأرض الجديدة بجذورك، المدارس هنا جيدة للعيال، الشوارع الداخلية آمنة وبعيدة عن رزالة الحكومة، تصلح كبداية جديدة، المرتب قليل، يكفي بالكاد للفول والباذنجان المقلي، وهنا يأتي دور الطموح، هناك فرص واسعة بالشارع الواسع في هذا العالم الجديد.
لقد فعلها من قبله \”عبد السميع\”.
………………..
تحوّل فيلم \”البيه البواب\” إلى أيقونة طبقية لم أهضمها أبدا، لقد لعب البواب الصعيدي \”عبد السميع\” بنفس القواعد المادية والأخلاقية للسادة سكان العمارة والطبقة الوسطة، سمسّر واشترى وباع، خاض رحلة صعوده بالكود البسيط الذي يعيش به الجميع من حوله؛ أن لا مشاعر في العمل والمصالح.. انتهى مشروعه عندما غفل عن هذا الكود ونام بجوار واحدة من السادة، في نهاية الفيلم يعود متذمرا إلى دكة البواب، على ألا يتخطى حدود تجارته الصغيرة أمام العمارة، ملتزماً باحترام السادة الصاعدين والخارجين.
لم تكن هذه نهاية قاسية مقارنة بحالته عندما هبط من قطار الصعيد فاقدا ماله وما تبرع به أهل الخير الفقراء، لكنها نهاية كافية لإرضاء سكان عمارة الطبقة الوسطى أثناء مشاهدة الفيلم على شرائط فيديو أو عبر سهرة القناة الأولى يوم الجمعة، ستضل قصة \”عبد السميع\” عبرة مطمئنة، قصة سعيدة عن الطوابق التي لا يمكن الوصول إليها رغم المال والبراعة والطموح والقسوة، أمثولة على كون قسوة الفرد لا يمكنها التغلب على قسوة المجموع. اللقطة الأخيرة بالفيلم للبواب البائس وهو يحاول إعادة المحاولة من جديد، فرصة أخرى تتمختر أمامه، من المفترض أن تهدم تلك اللقطة شعور الأمان لدى المتفرجين، هكذا سيعيد المحاولة إلى ما لا نهاية، لكن شعورا آخر بالتشفي يطغى علينا، فهذا البواب البائس لم يتعلم الدرس، فالقسوة الغاشمة لا يمكنها أن تحطمه وحدها، علينا أن نخلطها ببعض الأمل حتى يصبح مفعولها مدمرا.
دفء الغرفة الجديدة، ابتسامة الشرطي الطيب، وربما مصافحة مشجعة.
………………..
كانت الرحلة والعودة أسهل في ذهن البيه البواب، طموحه أمام قواعد اشتباك الطبقة الوسطى، لكن عندنا يبدأ الصراع بمحاولة إخضاع جسده.
في مهنة الفاعل يتلخص العمل في تكرار لا نهائي لمجهود الجسد البشري بأبسط صوره البدائية، الرفع والحمل والنقل والإنزال، جاء اسم \”الفاعل\” من هذا، لأن المصدر اللغوي \”فعل\” لا يعني في المستوى المادي أبسط من هذا، إنه الفعل الأول في التاريخ.[i]
لكن في مهنة الحراسة يتمحور الصراع حول مكان الجسد وليس فعله، إنها مهنة اللافعل حسب تصور السادة السكان. وبراتب يقل عن نصف الحد الأدنى[ii] (مضافاً إليه أجرة افتراضية مقابل سكنه بغرفة كئيبة)، عليه أن يظل حبيس دكة عبد السميع طوال اليوم، وهكذا يتم التخلص من أي احتمال لقصة الصعود. ولا يتعلق الأمر بواجبات العمل، لأن هناك استثناء دائم بأن يؤدي خدمات أخرى خاصة لكل السكان، من غسيل السيارات، إلى تأجير مجهوده للعمل لدى الآخرين، وإلى مشوار شراء ملح بخمسين قرشاً. يتم هذا بأجور تفضيلية أقل من أجر الشارع، فلقد تم احتكار هذا الجسد عبر الأجر الأساسي، وخدعة الأمن الذي توفره الغرفة الكئيبة الدافئة.
وكإجراء وقائي، يهتم السادة دائما بوضع مقاربات تخيلية لدخله النهائي، التدخين يُعد بادرة نعمة وتمرد، وبناء بيت في البلد يعني أنه قد خدع الجميع وكسر الدائرة المرسومة له.
………………..
وكما يحدث لعمال التراحيل في فيلم \”الحرام\”، تكون النتيجة هي أجساد لا تنتمي إلى مكان، تعيش في زمن دائري يبلى فيه الجسد مع تكرار التجربة.
في عمارتنا تنهار معادلة التشغيل بسرعة، هذا العالم الجديد أصبح أكثر قسوة من المجهول، ويرحل الحارس بعائلته لمكان آخر ليعيد تجربته من جديد. لم أشهد رحيل أي من حراس عمارتنا، في مرتين فقط أتى الحارس لتوديعي في إشارة إلى أن استقبالي المشجع ربما يكون قد أسهم في دعمه، لكن غالبا يختفون فجأة وبسهولة، لهذا كان أثاثهم خفيفا ولهذا عيالهم في انتظار بداية عام دراسي لا يأتي، وسيظلون هكذا، لأن الرحلة لا تزال طويلة.
[i] التصوير مأخوذ عن رواية \”الفاعل\” للكاتب \”حمدي أبو جُليل\”.
[ii] الحد الأدنى للأجر في مصر هو 1200 جنيه، وفي أسرة من 4 أفراد، يعني هذا 10 جنيهات يومياً للفرد.