\”سيبي مصر يا نهال\”.. هكذا أختم حواري معها كلما تحدثنا أو تقابلنا!
بعد واحد وأربعين سنة من الحياة في مصر أدركت بعض الحقائق:
مصر، كبلد، فعلا جميلة! ثروات وخيرات يدركها جيدا كل أجنبي قرر ترك موطنه الأصلي في دولة من دول العالم المتقدم ونقل حياته إلى قرية في الفيوم أو مزرعة في أبو صير أو كامب في سيناء!
مصر، كبلد، مثل لعبة البحث عن الكنز المفقود التي نلعبها مع الأطفال! الكنوز المدفونة والثروات المفقودة فرص تنتظر عين مدربة على لمح الذهب والماس والنحاس وسط الأتربة والصخور والعتمة!
مصر، كبلد، زحمة! زحمة لدرجة أن كل واحد يفعل ما يشاء في نفسه وفي زوجته وفي أولاده وفي ماله وفي حياته ولا يلتفت له أحد! هو ليس حرا ولكنه تائه في الزحام!
وهناك أيضا حقيقة التراب! مهما اعتنيت ببيتك ونظافته سوف تجد ذرات التراب السوداء والرمادية والبنية والصفراء على كل رف وكل منضدة وكل سطح داخل أو خارج المنزل! لن يكون بيتك نظيفا أبدا!
هذا التراب، بالإضافة إلى الزحمة ومغامرات المصري في البحث عن الكنز المفقود وأحلام الهروب والاختفاء داخل كوخ أو عزبة أو كامب، أرهقت الروح والبدن حتى اعتادا الإرهاق! لقد أصبح الشعور بالإرهاق والخمول والحنين إلى المجهول الماضي أو المجهول الآتي هو شعور كل المصريين بلا استثناء! لا يعرف متعة اللحظة إلا المجاهدين!
معظمنا تلقينا تدريبات كثيرة في تنظيم النفس وإطالة العضلات وتضميد الجراح ولضم أحلام اليقظة وحديث المرآة وفنون الفهلوة وقدرات تكبير الدماغ! هذا بالإضافة إلى الردح والكيد ورد الصاغ صاغين! هكذا نتعايش مع واقعنا وبلدنا وآلامنا وأمراضنا! لقد تركتنا التجربة نصارع العديد من الأمراض النفسية وباقة من الأمراض المزمنة وللأسف، سوف تقضي علينا الأمراض القاتلة!
على الرغم من كل المنغصات، نعيش ونتعايش ونغتنم فرص الضحك والمرح! هذا هو تعريف التأقلم ولولا هذه القدرة على التأقلم لاندثرنا مثلما اندثرت العديد من الكائنات مهما اختلفت فصائلها! بقاؤنا مرتبط ارتباطا وثيقا بقدرتنا على التأقلم! نطور قدراتنا ونورثها لأبنائنا وتتعاقب الأجيال عبر الحقب الزمنية المتزايدة الغبرة – فقط بفضل القدرة على التأقلم!
هناك فئة صغيرة قليلة ضئيلة من المصريين والمصريات لم يرثوا جينوم التأقلم! ليس لديهم القدرة على التمويه ولا الخداع ولا التخفي ولا الفهلوة وليس لديهم أي حيل دفاعية أو عدائية أو وسائل للحماية من المفترسات والكائنات المتربصة بهم! هؤلاء الأشخاص مصدومين! دائما مصدومين! لديهم مبادئ ومثل وأخلاق تؤهلهم للحياة السعيدة في بلاد كثيرة إلا هذا البلد! تنظر لهم تجد بختهم مائل في الصداقة والحب والزواج والعمل! حياتهم الأسرية حزينة محزنة وحيدة موحشة! حياتهم العملية حزينة كئيبة كمن حكم عليهم بالحجر الصحي مدى الحياة!
الزملاء والأصدقاء والجيران والحبايب والأقارب والأهل يمثلوا بالنسبة لهم الألم والغدر والخيانة والاستغلال والإهانة والإساءة! يشعرون بالغربة في كل لحظة وكل موقف وكل مناسبة!
ليس في مقدرة شخص تخطى الثلاثين من عمره تنمية مهارات التأقلم!
علمتنا الفراشات الملكية والبط والوز والبجع واليعسوب والجراد والثعابين الهجرة! الكثير من الثدييات والطيور والزواحف والأسماك تترك موطنها الأصلي من أجل البقاء! هذه هي الحيلة الوحيدة الباقية لك يا نهال!
سيبي مصر قبلما تلفظك أشلاء مبعثرة محطمة منتهية! سيبي مصر بقى!