تمتد القرى السياحية على طول الطريق المؤدي من العين السخنة حتى الغردقة بالتوازي مع البحر الأحمر في مصر، إلا في مناطق غير مؤهلة للاستحمام بسبب الصخور أو بسبب وجود منشآت عسكرية عليها. تعلن اللافتات عن منتجعات ومطاعم وسينما أسماؤها تذكر بأسماء منتجعات في أمريكا وأوروبا، أكثرها باللغات الأجنبية المترجمة إلى حروف عربية. القرى متشابهة نوعا ما، فمن بوابات الدخول تنقسم القرى إلى شوارع وعمارات سكنية مع بعض الفيلات. قد يكون هناك بقال أو مطعم داخل القرية، وحمام سباحة أو أكثر حسب مستوى القرية المعماري ومستوى الاستثمار المادي لأصحابها. لكنها عموما -أي القرى السياحية- تتشابه في خصوصيتها، وعدم إمكانية الدخول إليها إلا من قبل أناس يملكون أو يستأجرون بيوتا فيها وزوارهم، أو نزلاء أحد فنادقها.
تلاشت معظم الشواطئ المفتوحة للعموم، لمن لا يستطيع أو لا يرغب في دفع تكاليف شراء أو إيجار بيت يستخدمه أيام الإجازات. اتساءل: أين يفرش أحدهم حصيرة يجلس عليها قبالة البحر ويأكل طعاما أحضره من البيت؟ أين يمضي ساعات يتأمل الشمس حتى تغرب، بينما أولاده يسبحون ويجرون على الشاطئ؟
حين عدت مع أسرتي للعيش في القاهرة، سألني بعض الأصدقاء، كيف تغلبت على طريقة الحياة الصعبة جدا في نيو يورك، وخاصة مع أطفال في عمر صغير؟! لم افهم بداية السؤال، فهل كان هؤلاء الأصدقاء يعنون كيف تغلبت على الشعور بالبعد والغربة وما يوصف عموما ببرود العلاقات الاجتماعية في تلك البلاد؟ أصر أصحاب السؤال أن ما يعنونه هو صعوبة الحياة في الغرب، وتدني جودتها بالمقارنة بحياتنا في مصرأو في الشام.. تذكرت الكثير من أحاديث الناس في الغرب حول تدني \”جودة الحياة\”، والتي يصفون بها الحياة في مدن كبيرة مكتظة يغلب عليها البناء على حساب الخضرة والحدائق والفساحة في الشوارع.. تساءلت: كيف يقارن أصدقائي في القاهرة بين أحيائنا المختنقة وبين شوارع نيو يورك المزدحمة، فيستنتجون أن جودة الحياة في نيو يورك أدنى مما هي عليه في القاهرة!
فهمت فيما بعد أن مقياس الجودة عند الكثيرين، خصوصا في الشرائح الاجتماعية المتوسطة والعليا، هي إمكانية الحصول على خدمات بأسعار أدنى بكثير من الخدمات في الغرب. \”يعني بره بتعملي كل حاجة بنفسك وما حدش بيساعدك، لا أهل ولا صحاب ولا حتى عمالة مأجورة لأنها غالية\”.. بصراحة، ومع استمتاعي كثيرا بوجود العائلة الممتدة، وما تقدمه من مساعدة دون مقابل، غير أنني اتناقش كثيرا مع الأصدقاء حول مفهوم \”جودة الحياة\”، فأكثر ما يدخل في تقييم هذه الجودة في الغرب هو استعداد الفضاء العام لاستقبال السكان، من أرصفة سوية مؤهلة لكراسي الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة ولعربات الأطفال، إلى الكراسي العامة التي نرتاح عليها من المشي في الشارع، إلى الحدائق والمرافق العامة التي يستخدمها السكان والسواح دون مقابل، مرورا بالمواصلات العامة التي تعمل ضمن برنامج ثابت نخطط ليوم عملنا ومواعيدنا على أساسه.
طبعا نشتاق للتاكسي أو لمربية الأطفال أو الخالة التي ترعى معنا الأولاد وتساعدنا في تحضير العزومة حين نعيش في الغربة، نشتاق للأخ الذي يفك أزمتنا بتوصيل الولد إلى المدرسة يوم نكون فيه غير قادرين على ذلك، لكن هل يرقى هذا لتوصيف الحياة في بلادنا على أنها أكثر جودة من بلاد شوارعها نظيفة ونفاياتها يعاد تكرارها بشكل غير ضار بالبيئة (أتذكر هنا رائحة حرق قش الرز) و\”باصاتها\” تعمل بشكل منظم وفق جدول واضح؟
أين مساحاتنا العامة؟ ومن نحاسب على وضعها المزري؟ سمعت مسؤولا في إحدى الوزارات يجيب عن هذا السؤال على التليفزيون بقوله: \”أصل الشعب ما بيحافظش على المرافق\”.. ممكن، فالسلوك المجتمعي في بلادنا تجاه المرافق والأملاك العامة أقل ما يمكن وصفه هو أنه غير مسؤول، فننظف البيت ونكنس، حتى باب الدار، ثم نرمي النفايات خارجه، أو ننحت اسمنا واسم محبوبنا على تمثال كوبري قصر النيل أو معبد في أسوان، لكن تحميل الناس كل المسؤولية تجاه الوضع المأساوي لشوارعنا أمر غير عادل، فالبناء والتوسع العشوائي، حتى للمدن الجديدة المحيطة بالعواصم، وعدم التخطيط لمرافق وخدمات، يفترض أن ترافق كل توسع عمراني، من شوارع مؤهلة وبها إنارة إلى مواصلات عامة، وعدم سن وتطبيق قوانين للسلوك في الشارع، وخصوصا غض الطرف عن السلوك غير الحضاري لمن يظنون أنفسهم مهمين، كلها مسؤولة عن تقلص المساحة العامة التي تحترم السكان.
أن امشي في شارع نظيف.. أن اقطع الشارع دون أن اخاف أن يدهسني سائق لا يكترث للإشارة، أن اجلس على كرسي قبالة النيل فأستمتع بالمنظر، أن ارمي نفايات متزلي في مكان مخصص لذلك، أن امنع أولادي عن رمي الوسخ في الشارع لأنهم سيرمونها في حاويات متوفرة كل قليل، ذلك ما يوصف، في الغرب، بكلمة \”جودة الحياة\”. أما أن يكون بإمكان البعض أن يحصلوا على المساعدة لقاء أجر زهيد أو ألا يضطروا للتعلق في أبواب باصات مهترئة أو أن يختاروا أن يعيشوا في مجتمعات سكانية مغلقة ببوابات، فلا يكترثوا لانقطاع المياه عن قرى بأكملها طوال الصيف، فذلك اسمه قلة وعي وعدم اكتراث بالآخرين، وليس جودة حياة.
جودة الحياة هي أن تكون هناك شواطئ عامة تتمتع ببحرها ورملها عائلات تلم نفاياتها قبل أن ترحل، فتضعها في حاويات موزعة على الشاطئ.. جودة الحياة هي أن اشعر أن الفضاء العام ملكي، لكنني أيضا مسؤولة -جزئيا- عن جماله ورعايته.. طبعا إن اخترت مع وجود هذه المرافق العامة أن انتمي لمرافق خاصة، فهذا اختيار شخصي، لكن ما يجب كسره هو زواج العام بالمهترئ، والمفتوح بالوسخ، وذلك من خلال توفير مرافق عامة ووضع غرامة فعلية على من يخربها. أو كما قالت لي صديقة: \”ليه برأيك لما نكون بره، بنوقف بالطابور وما بنرميش قشة في الأرض؟ مش عشان هم أحسن منا، بس عشان ممكن ندفع 100 دولار مخالفة\”.