دينا ماهر تكتب: أرض الميعاد

كنت اتمنى أن يتم التنويه: \”تعتذر الكاتبة عن كتابة مقالها نظرا لسفرها لألمانيا\”، لكن الديد لاين لا يعرف السفر، والإنترنت لم يجعل لنا حجة.

يخبرني صديقي أن لكل منا أرض ميعاد،. ليس المقصد عقائديا، لكنه ذاتي، فأرض ميعاد الإنسان ليست وطنه، لكنها مكان وجد به جزء ضائع من روحه أو شهد تحولا لمسار حياته.. مكان يتمنى أن يكون وجهته الأخيرة.

بالنسبة لي ليس لي أرض ميعاد حتى الآن، لكن قادتني الصدف للذهاب لألمانيا لاكتشاف أرض ميعاد والدي.

قضى أبي فترة طويلة في برلين يدرس ويعمل، لم تنقطع صلته بها حتى وفاته، وكان يفكر بشدة في البقاء في ألمانيا.. اتذكر حين كنت طفلة كان سفر أبي لألمانيا حدثا سنوياً، يعود منه بالكثير من الحكايات والصور بكاميرته البلورايد.. لم يذكر لنا أبي ما حدث في عامه الأول في برلين، لكني عرفت من حكايات عمي التي تلت وفاة أبي أن هذا العام كان قاسيا جدا،ً فأبي كان يظل لأيام دون طعام متحرجا من طلب المال من أهله بمصر، وفي أوقات كثيرة لم يجد مسكناً.

اسافر إلى ألمانيا، أحمل حقيبة سفر كان يعتاد أبي السفر بها.. في ليلة السفر، كنت أرتب ملابسي وأفكر ترى ما سينصحني به أبي لأحمله معي؟ هل المعطف الثقيل، والجوارب الصوفية، والكوفيات أم كتاب لن أقرأه؟ هل كان سيستهجن حملي لدولابي كله معي؟ أم أنه سيتفهم أن من نذرتهم الحياة للوحدة لا يجدون سوى الملابس تؤنس وحدتهم.

في الطائرة المتجهة إلى برلين، كنت الوحيدة التي تشعر بالبرد، بجواري مقعد فارغ وأمامي حائط شاشة التعليمات.. أغمض عيني واسمع أغنية \”يا مسافر وحدك\”، ولا أشعر سوى بقسوة السفر وحيدا.. افكر في عدد المرات والأميال التي سافرها أبي وحده واشعر كم أنا هشة و\”خرعة\”.

في مقعد الطائرة تتردد في عقلي جملة  واحدة: \”بقى أنتي يا دينا هتركبي طيارة وتروحي بلد ماتعرفيش لغتها، ده أنتي بتروحي التجمع، بتقولي يا غربتي\”.

اصل إلى برلين وأترك قدمي للشوارع الباردة، تقودني في رحلتي خطابات صديقتي التي كانت دائما ما تحكي لي عن شوارع برلين وكيف تجدها مكانا مناسبا لأرض ميعاد، تصحبني كلماتها إلى مطاعم وحدائق ومحال أخبرتني عنها سابقاً.. أسير بملابس ثقيلة ملونة دون أي تناسق فأبدو كالمشردين.. أقارن ذلك بصور أبي بمعطفه الأسود الكشمير وهيبته الواضحة، وابتسم.

اتساءل: ترى في أي جزء جلست يا أبي لا تجد مالا لاستكمال رحلتك؟! وفي أي جزء من هذه المدينة ضحكت حتى دمعت عيناك؟ وأي من هؤلاء العجزة الذين يسيرون بالشارع يعرفك أو كان صديقا لك.

لم أحدد بعد هل برلين أرض ميعادي أم لا، ربما الوقت مازال بعيدا لأقرر، وقرار كهذا لا يؤخذ في جو بارد لدرجة تجمد الروح، لكن على أية حال، يكفيني أن أزور أرض ميعادك يا أبي.. ربما شعوري أني أسير بنفس الشوارع التي وجدت أنت فيها روحك، يجعل فراقك أقل ألماً. ربما هذا عربون المحبة الذي جاء بعد عداوة طويلة مع شهر أكتوبر الذي شهد وفاتك، فأصبح شهر الحزن طوال السنوات الماضية.. ربما أرض ميعادي تناديني أنا الأخرى وتصلح ما أفسدته الأعوام، أو على الأقل تجعله أخف وطأة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top