في يناير 2010 التقيت أحد المحافظين السابقين, على هامش مؤتمر طبي أقيم تحت رعايته, وبعد انتهاء الجلسة الافتتاحية، جلس الرجل يحتسي القهوة مع رهط من القائمين على المؤتمر، يتحدث عن رؤية الدولة في ذلك الوقت لإصلاح النظام الصحي, وقال الرجل بمنتهى الوضوح: (مفيش حاجة اسمها دولة فقيرة زينا يفضل فيها التعليم والصحة ببلاش) ظننتها نزعة رأسمالية من ذلك المحافظ، ولكوني أصغر الجالسين سنا ومقاما، فاكتفيت بالاستئذان والانصراف.
بعدها بأشهر قلائل أصدر أمبراطور الاستثمار الطبي والقابع على رأس ديوان عام وزارة الصحة وقتها أ. د. حاتم الجبلي لائحة غريبة للمستشفيات، وتم تمريرها من البرلمان في 2010 لتتحول مستشفيات وزارة الصحة من مستشفيات للغلابة لمستشفيات استثمارية، وما إن بدأ تطبيقها فعليا في يناير 2011 حتى بدأ المرضى في الأنين, ثم قامت الثورة ليلغى العمل بها, وهو ما دفعنا للفهم بأن ذلك التوجه من قبل الدولة قد انتهي للأبد.
مع بداية حكومات ما بعد الثورة، ظل النشطاء والنقابيون الأطباء يتربصون بأي محاولة للانقضاض على حق المريض الفقير في خدمة صحية جيدة, وحق الطبيب المصري في تعليم طبي مستمر يرفع كفاءته العلمية والإكلينية, ودخل يكفل له الحياة الكريمة.
وبذلت نقابة الأطباء المصرية جهدا كبيرا في توعية الرأي العام المصري بأهمية الحق في الصحة، وطرحت رؤيتها بوضوح في إصلاح القطاع الصحي، وجعلت من \”رفع ميزانية الصحة في الموازنة العامة للدولة\” على رأس أولوياتها.
ودخلنا مفاوضات رهيبة مع البرلمانات السابقة والحكومات المتعاقبة لتحقيق تلك الغاية وسط تشويه ممهنج لتلك المفاوضات واتهامها بالفئوية, متناسسين أن مهنة الطب هي المهنة الوحيدة التي –لإنسانيتها- يرتبط المنتفع من الخدمة بها ارتباطا كاثوليكيا.
ومع إقرار الدستور الأخير في 2014، تم إقرار مادة تنص على الزيادة المتوالية للصحة مع إقرار نص غريب يشجع على الاستثمار في مجالي الصحة والتعليم.
واستغلت القوى الانتهازية هذا النص الأخير في التطاول على المهنة, فدشن مجموعة من رجال الأعمال العديد من المراكز الطبية, وانشأوا كليات كالعلوم الطبية التطبيقية,هدفها تخريج مجموعة من الفنيين والخدمات المعاونة ليحلوا محل الأطباء!
وخرج علينا وزير الصحة الجديد ليتحدث عن تجديد لترخيص مزاولة المهنة دون تحمله هو ووزارته لأية مسئولية في اقرار نظام تدريبي واضح للاطباء والتمريض!
وبدأت ملامح السيناريو القديم تلوح في الأفق، وتتبلور في الخطوات التالية المزمع البدء فيها بخطى ثابتة:
1- ضعف الانفاق الحقيقي على الصحة والتعليم, وتخصيص معظم الزيادات الطفيفية لمستشاري الوزير, الذي غالبا ما يأتي من الجامعة مصطحبا معه شلته الذين لم يعملوا يوما بوزارة الصحة ولا يملكون أي خطة للاصلاح.
2- التضييق على الأطباء في التسجيل للدراسات العليا وحضور المؤتمرات والدورات وورش العمل, ومن ثم سحب ترخيص مزاولة المهنة منهم.
3- شن حملة إعلامية شعواء ممهنجة على الأخطاء الطبية للأطباء, وتصويرهم في صورة القتلة والمتربحين من آلام المصريين.
4- استبدال كوادر الأطباء في وزارة الصحة بأخرى من الكوادر الجامعية والعسكرية.
5- هدم وزارة الصحة من الداخل بافتعال أزمات بين النقابة والوزارة والخارج، بالاستعانة بخبرات من خارجها, ومن بعدها الجامعة، في مقابل تلميع مؤسسات أخرى كالهيئة الهندسية للقوات المسلحة والأكاديمية الطبية العسكرية وكلية الطب العسكرية, ولولا فشل مشروع (جهاز الكفتة) لأصبح المخطط قابلا للتنفيذ.
6- اللعب على البسطاء وغير المتخصيين في تصوير التطوير على أنه مجرد طلاء الحوائط وتركيب سيراميك, كما حدث في معهد القلب, مع قصر جهات التطوير على مؤسسات بعينها.
7- تشويه معظم الرموز الطبية وخلق حالة من الإحباط بين صفوف الأطباء حتى يصل التصويت في انتخابات أطباء مصر لـ 2.5% ومن ثم تجاهل مطالب النقابات.
8- دفع الأطباء للهجرة والسفر للخليج, ومن ثم رفض الإجازات بدون المرتب واجبارهم على الاستقالة.
9- التمهيد لالغاء التكليف على دفعات كليات الطب، واستبدال ذلك بالتعيين من خلال المسابقات فاتحين مجالا للمحسوبية والمجاملات.
10- البدء في فتح المستشفيات العسكرية بالمجان أمام المدنيين, كخطوة أولية، ومن ثم تحصيل رسوم باهظة بعد انهيار مؤسسة وزارة الصحة.
11- اقتصار دور وزارء الصحة على الجولات الإعلامية, لتحميل صغار الأطباء والمديرين المسئولية عن انهيار المنظومة, واستخدام الأطباء كشماعة لتعليق أخطاء متراكبة عليها.
هذا السيناريو -نتمنى أن نكون مخطئين فيه- قد يكون أغلبه صوابا, وأغلبه خطأ, لكن أكثر من شخص ثقة قد ألمح له, بالإضافة إلى أن تصريحات الوزارء المتعاقبة تشير لذلك.
والآن وقبل الانتخابات البرلمانية لأهم برلمان في تاريخ مصر –كما يرددون- نضع ذلك السيناريو بوضوح أمام الناخبين والأطباء ونواب المستقبل, ونمد أيدينا للجميع للحفاظ على صحة المصريين ومهنة الطب في مصر.
للتواصل مع الكاتب: