\”ليالي قريش\”, ليس مجرد كتاب, هو مشروع ضخم عملاق إذا تحقق فعلا، يمكن أن يغير كثيرا في الثقافة العربية، وإذا صار مؤثرا، ففي تقديري أنه مشروع التغيير الأهم.
قرات الكتاب المطبوع، وفوجئت أنه يضم خمسين ليلة فقط من الليالي المنشور منها حتى الآن أكثر من مائة وخمسين ليلة, سألت كاتبها مؤمن المحمدي: \”أنت ناوي تكتب لحد أمتى؟\” قال لي: \”لغاية الخليفة أبو بكر البغدادي إن شاء الله\”.
إذن هو مشروع تفكيك التاريخ كاملا، حتى اللحظة الحاضرة بكل إشكالياتها وتعقيدها.
افكر كثيرا.. هل إرثنا التاريخي هو الذي أوصلنا إلى هذه النقطة، أم أنها الجينات هي التي سببت كل تناقضات الإرث التاريخي والموروث الحاضر؟ حيما اقرأ في الليالي, والتشابهات والتعقيدات التي شهدها تاريخ المنطقة، أجدني لست مغرمة بكون التاريخ يعيد نفسه ولا اعتقد هذا, لكنني لا استطيع أن افلت من هذا الشرك وأنا اقرأ الليالي، وإلا فاخبروني كيف تكون اليمن من وقتها وحتى لحظتنا هذه محل نزاع بين الفرس والروم / أمريكا وروسيا / إيران وتركيا, للسيطرة عليها؟ وكيف يلعب الطرفان في التاريخ على ثنائية اليهود والمسيحيين، وفي الحاضر على ثنائية الشيعة والسنة؟
المشهد يبدو وكأننا نعيد انتاج ذلك التاريخ، وكأننا أمة من الأسماك بلا ذاكرة ولا نتعلم.
إنه التاريخ هنا حاضرا بشحمه ولحمه يسري خفيفا بين دفتي كتاب, فلنقرأه إذن.
في البداية تساءلت: لماذا يكتب مؤمن المحمدي تاريخا على هذه الدرجة من الحساسية، ويسكب جهدا بحثيا جبارا في كتاب باللغة العامية, ثم فكرت أن هذا أنسب كثيرا للمشروع.. إن مؤمن المحمدي يفكك كل شئ.. يفكك التاريخ ويفكك اللغة التي كتب بها التاريخ، ثم يفكك الوسائط التقليدية لعرض المحتوى، إذ أنه ينوي تقديمه عبر حلقات متلفزة ستذاع عبر شبكة الإنترنت, فلنفكك كل شئ إذن, على بركة الله.
هل سنقرأ أخيرا وندرك أن المقدس -وإن كان مقدسا- ينبغي فهمه بعقلانية تعيننا على الفهم, وأن الفهم أكبر درجات الإيمان.. انعشني جدا فهم ما جرى لحملة أبرهة الحبشي من منظور عقلاني, أصيب جنوده بالجدري, وهاجمتهم طيورا ترمي عليهم حجارة صغيرة, هذا النوع من الطيور موجود في هذه المنطقة بحسب الكاتب -ما أصاب جيش أبرهة قريب الشبه بما أصاب جيش نابليون في عكا- هكذا يقول العقل, ولا ينفي الأمر أن هذا ما فعله الله -حسب ما نقرأ كل يوم في سورة الفيل \”ألّم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل\”.. الروايتان يمكن أن تتجاوران وتتواصلان.. المعجزات تحدث هكذا، وهكذا تتحقق إرادة الرب.
يعري مؤمن المحمدي الأساطير التقليدية, وهذا في تقديري من أهم إنجازاته, في المقابل يعلي من قيمة الإنسان وننتاجه الذهني, ففي الكتاب تلمح سيرة العبقرية السياسية لقصي بن كلاب المؤسس التاريخي لمكة, وعبقرية ابنائه أيضا في جهد منظم وواع لتأسيس المدينة التي ستكون حاضرة العقل العربي حتى هذه اللحظة, مدينة الوحي وأم القرى.. إعادة الاعتبار للعقل الإنساني مهم جدا، في مقابل نزع الهيبة عن الأساطير.. أين كان الله إذن إذا كانت القصة هي محض جهد إنساني.. الله كان ومازال حاضرا في عقل وروح عباده, وإن شئت فإن كل منجزهم الإنساني هو ما صنعته يداه وإرادته.. الله لا يحتاج لأساطير غامضة تؤكد وجوده.
عاش العرب طويلا داخل عباءة الألف ليلة وليلة, دغدغت مشاعرهم شهرزاد بسحر الحكاية, اعتقد أنه آن آوان \”ليالي قريش\” كي تفكك -بالعقل- ما نام مطمئنا في وادينا الطيب من الأساطير.. كثير من الكذب ينبغي أن يذهب كي تجلو الحقيقة وجهها.