\”هوايتي أن ابتكر أشياء\”.. هكذا صرح أحمد محمد الحسن صاحب الأربعة عشر عاما ابن المهاجر القادم إلى الولايات المتحدة من السودان، إحدى أكثر دول العالم معاناة، والتي يحكمها نظام ارتكب جرائم ضد الإنسانية.
أحمد تم إحتجازه لساعات في مركز لتوقيف الأحداث في ولاية تكساس الأمريكية، والسبب أن جرس ساعة صنعها الطفل الموهوب قد دق في حصة اللغة الإنجليزية لتشتبه مدرسته في كونها قنبلة!
ردود أفعال كبيرة أحدثها ما تعرض له أحمد، شعبية ورسمية؛ ما يقرب من 800 ألف تغريدة على تويتر تحت عنوان \”أنا أدعم أحمد\” من ضمنهم تغريدة للرئيس الأمريكي نفسه، تدعو الطفل الذكي لزيارة البيت الأبيض، ومعه اختراعه، ويخبره الرئيس أنه لابد من تشجيع وإلهام أولاد وبنات مثله ليحبوا العلم، لأن هذا ما يجعل أمريكا عظيمة!
وعلى نقطة بعيدة في ذات الكوكب، وفي نفس الوقت تخوض مريم ملاك؛ طفلة أخرى تقارب الثمانية عشر عاما من محافظة المنيا الفقيرة صراعا غير متكافئ مع دولة أعطتها صفرا في نتائج سبعة مواد دراسية في الثانوية العامة، ونشرت جرائد صورا ضوئية لبعض أوراق إجاباتها كلا منها بخط مغاير، لكن الطب الشرعى- الذي أكد قبلا أن شيماء الصباغ قتلها الخرطوش لأنها نحيفة!- أكد أن هذه الخطوط المتعددة جميعها تخص مريم وأنها تستحق الصفر.. هذا وقد طلب منها مدير \”الكنترول\” – وطلب منا معها- أن تركب \”أعلى ما فى خيلها\”!
فى حالة مريم، الدولة تخرج لسانها للجميع – إلا من يعبدون الدولة- وتقول لهم: \”وإذا كان عاجبكم\”!
الحادثتان المصرية والأمريكية، تعبير عن حالتين ودولتين ومجتمعين، الحادثتان تعبير عن أن تكون \”مواطنا\” لديك حقوق، حين تنتهك من السلطة يدافع عنها المجتمع، فتُحاسب السلطة على قدر خطأها وتعتذر وتعيد لك حقوقك وتعوضك، أو أن تكون \”رعية\” تمن عليك السلطة وتعطف لتعطي أو تمنع.. بالقطع سيخرج علينا الآن أصحاب الإسطوانات المشروخة الشهيرة أن الغرب ينتهك حقوق الإنسان وكل هذا الهراء، ربما تحدث انتهاكات هناك، لكن كما صرح والد أحمد \”هذه هي أمريكا.. عندما يقع خطأ يواجهونه ونحن ممتنون وشاكرون لذلك\”، في المجتمعات المتقدمة السلطة غير منزهة عن الخطأ، لكنها حين تخطئ تجد من يحاسبها، أو على الأقل من يحاول، فتضطر لتصحيح أخطائها.
أظن أن صراع مريم هو تعبير عن الصراع الحقيقي: انتزاع حقنا في أن نكون \”مواطنين\” لنا حقوق يكفلها قانون يحرسه المجتمع وإعلامه ومؤسساته، لا \”رعية\” نطلب \”المنحة يا ريس\”.. مريم في وسط معركتها، رفضت أن تقابل بابا الأسكندرية، وصرح أهلها أن معركتهم قانونية، ولا يجب أن تأخذ بعدا طائفيا، أظن أن فكرة مقابلة البطريرك من الأساس هي تكريس لحالة \”الرعية\”، ففي دولة \”الرعايا\”، لكل \”طائفة\” شيخ يطلب لها \”المنح\” و\”العطايا\” من أولي الأمر؛ دور لعبته الكنيسة المصرية في أوقات كثيرة ورفضته الصغيرة، ربما لتؤسس لموقف جديد، حتى لو كان تصرفها – أو تصرف ذويها- لا يعي هذا البعد.
أثارت حادثة أحمد المسلم ذو البشرة السمراء حوارا مجتمعيا وتغطيات إعلامية مكثفة داخل الولايات المتحدة عن هل ما حدث كان سيحدث لو أن الطفل كان ذو بشرة بيضاء وله اسم مختلف، ووضعت شرطة الولاية في موقع الاتهام بالعنصرية و/أو الإسلاموفوبيا، بغض النظر عن الإجابات، نحن بإزاء مجتمعات حية تراجع ممارساتها وتناقشها وتصوبها، مجتمعات يشغلها \”اندماج\” أعضائها داخلها، مجتمعات تفكر في فئاتها الأضعف والدفاع عنها ضد السلطة إذا تغولت عليها، مجتمعات تدافع عن \”التنوع\” و\”الاندماج\” داخلها بالرغم من التناقضات أو التباينات من أجل تجاوز الهموم المشتركة والحياة الأفضل للجميع، ببساطة تدافع عن هذه القيمة المغيبة لدينا بفعل فاعل: \”المواطنة\”، كل هذا يواكبه إعلام يحركه – حتى لو جزئياً- ما يشغل المواطنين حقيقة.
في حالة مريم يمكن بسهولة ملاحظة المواقف الإعلامية لقنوات تلفزيونية وجرائد تنشر فقط ما يملى عليها، تبرر للسلطة – أى سلطة – كل الأخطاء أو حتى الجرائم، إعلام ينحط لدرجة محاولة سحق طفلة وتدميرها لحماية طابور متصل من الفسدة وعفن مستقر في أعماق الدولة، تبدو مريم وحقها ومحاولتها لأن تكون\”مواطنة\” تهديدا مباشرا له.
نموذج واضح لهذا ما نشرته إحدى الصحف واصفة مريم بأنها مريضة نفسيا، وأنها اختلقت كل هذا في خطة مافياوية متقنة، لكى تعيد السنة! سيناريو مضحك يتجاهل أنها تحيا وتؤدي امتحاناتها وسط آخرين؛ أهل وزميلات ومراقبين ومدرسين ومدرسين خصوصيين، استطاعت ابنة الثمانية عشر عاما خداع كل هؤلاء لشهر كامل أثناء الامتحانات، ثم تخوض معركة طويلة بعد ظهور النتيجة، تتعرض فيها لكل هذه الضغوط حتى تنجح خطتها لإعادة السنة! قصة عبثية يصدقها من يصدقون هذيان تصريحات الرئيس المكسيكي لجريدة الأهرام المكسيكسية!
\”المستقبل يخص من يشبهون أحمد\”.. هكذا كتب مارك زوكربرج مؤسس فيسبوك على حسابه، وهو يدعو أحمد لمقابلته ويدعوه لاستكمال ابتكاراته، أظن أيضا أن المستقبل يخص مريم ومن يشبهونها من جيلها أصحاب هواية \”ابتكار\” حياة جديدة وحرية وعدل، من يعرفون بحدسهم أن الخوف و\”المشي جنب الحيط\” لا يصنع مستقبلا، فقط الإصرار والاستمرار والدأب والابتكار والبناء يصنعونه.
صلابة ابنة الثمانبة عشر عاما المدهشة، إيمانها بالحق وإصرارها على الدفاع عنه، منطقها المتماسك، ذكاؤها البادي، رنة السخرية – والتحدي- في صوتها وبريقها في عينيها، وهي ترسل رسالة على الهواء بلهجتها الصعيدية لرئيس الجمهورية، تطلب منه أن \”يورينا إحنا كييف نور عينيه\”، تدعو للتفاؤل – وبشدة- أن جيلها لن يطلب \”المنحة\” ثانية، سيطلب من الحاكم أن يلتزم بتعهداته، سيذكره بأنه \”موظف\” ينتخب ليدير السلطة التنفيذية لوقت محدد، وأن هناك من سيسأله ويحاسبه إن أخطأ أو انحرف بممارسة السلطة، وأنه ليس \”صاحب المحل\”، سيصر هذا الجيل أن يكون \”مواطنا\” كامل الحقوق، وأن هذه الحقوق متساوية للجميع وأن القانون هو وسيلة وحكم ليحصل المواطنين على حقوقهم، لا أداة في يد الدولة ومؤسساتها لقهرهم.. أظن أن أبناء المستقبل لن يهزمهم الخوف، سيتخلصون من أمراض أجيال اعتادت أن تنتظر المنح، وسيكونون \”مواطنين\” لا \”رعايا\”.
أظن أن نضال أبناء المستقبل سيستمر وسينتصر في لحظة ما.