مقدمة:
كعادة من يكتبون، أسترق السمع للحكايا، أبحث عنها بشغف، وأحيانا هي من تبحث عني، ربما يأتي الله بالحكايات لمن يستطيعون حكيها، ولذلك أحكي، أحكي اليوم عن \”ماهينور المصري\”، الناشطة المحامية الإسنكدراينة الجدعة، نصيرة العمال، المتظاهرة، المدافعة عن المتظاهرين.. لماهينور وجوه كثيرة، كلها جميلة، وعصية على المّحو، فحتمًا لن يلفح السجن الذي تقبع فيه ماهينور الآن في تغييرها، ربما هي من ستغير السجن! لا أجد تفسيرا لحالة الصمت عن الحديث عن قضيتها، وعن كل قضايا المعتقلين، ولكني أجد سبيلا لكي لا أشارك في هذا الصمت القبيح المخجل، ذاك السبيل هو الكتابة، وها انا أكتب.
(1)
يومها، لم أشعر أني في محكمة، فالمحاكم بالنسبة إليّ، هي تلك القاعات الصغيرة التي تقبع داخل أروقة المباني الكبيرة، وسط موظفي السكرتارية والجدول ويومية التنفيذ وغيرها من الأشياء اللازمة لإتمام أعمال المحاماة، فقط كان هناك هاجسا بعدم الطمأنينة يسيطر عليّ، فنحن الآن داخل مقر شرطي، هو ذاته يقع داخل مقر شرطي كبير اسمه \”منطقة سجون طره\”، يسمى هذا المقر \”معهد أمناء الشرطة\”، وحقيقة لا أعرف ما وجه الربط بين معهد لتخريج أمناء الشرطة، وبين إقامة جلسة محاكمة تعقدها محكمة جنايات القاهرة! أخبرونا بأن أصدقاءنا ورفاقنا \”معتقلي مظاهرة مجلس الشوري\” سيحاكمون هنا، قالوا إنهم يشكلون خطرا على الأمن، ولذلك تم نقل محاكمتهم إلي هذا المكان المخيف بدلا من إنعقادها في مقرها الأصلي بمحكمة جنوب القاهرة، ومن عبث القدر أن الواقفون في القفص اليوم، خرجوا ليدافعوا عن ولاية المحكمة المدنية التي تحاكمهم الآن في مقر شرطي!
دخلت متأخرا، الجلسة منعقدة، القاضي علي منصته، المتهمون داخل القفص، العساكر على المقاعد التي تجاور قفص الاتهام، المحامون يجلسون أمام القاضي في المكان المخصص لهم، يجاورهم الصحفيون، أهالي المتهمين وأصدقاؤهم يجلسون في المقاعد الخلفية، اخترت مقعدا خلف المحامين، لأتابعهم، وأساعدهم إن طلبوا ذلك، وزع المحامون الأدوار بينهم، يقف واحد أو اثنان أمام القاضي، تجلس أكثريتهم لتتابع، الجلسة اليوم مخصصة لسماع أقوال شهود الاثبات، من ضباط الشرطة الذين قاموا بالقبض، وفض المظاهرة.
الكل ها هنا غاضبون، متأهبون، أقوال الشهود متناقضة، وبعضهم لا يتذكر شيئا، والبعض الآخر ينصح المحكمة والدفاع بالرجوع لتحقيقات النيابة، التي لم تستجوبهم في الغالب، غضبت مع الغاضبين، فأنا دارس للقانون، أعلم جيدا أن المحكمة من الممكن أن تجعل من هذه الأقوال سببا لإدانة المتهمين، علمونا أن الأدلة في القضاء الجنائي تقع كوحدة واحدة، يؤخذ منها ويرد، الأمر متوقف على إطمئنان المحكمة، لهذا الدليل أو ذاك.
الغضب يسيطر، القاضي غاضب هو الآخر، المحامون يناقشون، الصحافة تدون، بعض من الأهالي انتابه البكاء.. وسط كل هذا جلست \”ماهينور\”، في مقعد يلي مقاعد المحامين، هادئة، مرتدية رداء المحاماة الأسود، أمدها الله بسكينة من لدنه، فإزدادات بهاء على بهائها، تجلس ممسكة بالقلم، لتدون أقوال الشهود ووقائع الجلسة، لاستخدامها بعد ذلك في كتابة مذكرات الدفاع، والمرافعة.
(2)
وسط القاهرة، صباحا، الشوارع لم تلوثها أحذية المارة بعد، هدوء تشوبه بعض آلات التنبية الخاصة بالسيارات، المحلات تفتح أبوابها، وأغلبها مازال مغلقا، الساعة الآن التاسعة، وهو الميعاد الذي اتفقنا عليه أنا والأصدقاء، فما زال أمامنا يوم طويل سنقضيه في الشمس الحارقة، ولذلك لا مانع من بعض من القهوة والنسكافية وغيرها من المشروبات الصباحية التي ستساعدنا على اتمام هذا اليوم السيء، لم ننم في الليلة السابقة أصلا!
اليوم، هو المقرر للنطق بالحكم في استئناف النشطاء السياسيين \”أحمد دومة، أحمد ماهر، محمد عادل\”، على حكم حبسهم 3 سنوات، في قضية \”مظاهرة عابدين\”.. الأمل الأخير.
أتى الأصدقاء واحدا تلو الآخر، جلسنا على المقهي، نتحدث في بعض الأمور، ونتبادل أكواب القهوة والسجائر، وبالطبيعة البعض يمسك بموبايله، ليتصفح \”الفيس بوك\”، صاح أحد الجالسين فجأة: \”الحكم اتأيد!\”، وجهت حديثي إليه \”فين ده؟ وريني كده\”، أعطاني هاتفه فوجدت منشورا على حساب أحد النشطاء يقول إن المحكمة أيدت الحكم!، \”طب إزاى؟\”، المحامون لم يذهبوا بعد إلى مقر المحاكمة أصلا، الكل صاح فجأة: \”طب ما تتصل تتأكدلنا من المحامين\”، اتصلت بأحد محامي النشطاء \”صباح الخير يا أستاذ، هو الحكم اتأيد؟\”، أكد لي تأييد الحكم، الكل ذهول، الدموع تنزل، بينما أنا انتابنتي حالة من الضحك الهستيري لم أعرف لها سببا حتى الآن! تركنا المقهى، واستقللنا المترو، ومنه إلى الميكروباص، لنصل إلى مقر المحاكمة، بمعهد أمناء الشرطة.
لم يختلف حال الواقفين أمام المحكمة عن حالنا، الحزن مخيم، القلوب خائفة ومضطربة، الأرواح مبعثرة، في قرار جنوني، قررنا الذهاب إلى قصر الإتحادية، والاعتصام أمامه لحين الإفراج عن النشطاء، نبهنا الحاضرين إلى عدم ضرورة ذهاب من يخاف تدخل الأمن.
قسمنا أنفسنا بين أنواع المواصلات المختلفة، ذهبنا إلى الاتحادية، جلسنا في الحديقة المقابلة لقصر الاتحادية، على الفور أتى أحد أفراد الشرطة حاملا فوق كتفيه رتبة لواء، يسأل عن ماهية جلوسنا، أخبرناه بأننا معتصمون لحين تنفيذ مطلبنا بالإفراج، أخبرنا بأن الاعتصام هنا ممنوع، وبعد مشادات تركنا وذهب، وحل بدلا عنه الخوف!
نحن الآن، 15 فردا تقريبا، معتصمون في مكان خطير كهذا، دون أي حماية أو تأمين، ليس معنا سوى الله، توافدت عربات الأمن المركزي بغزارة لم أرها في حياتي، عربات محملة بالجنود، تجر بعضها بعضا، كل مداخل ومخارج المنطقة قد أقفلت، بما ينبيء بأن أي محاولة للهروب سيحكم عليها بالفشل من قبل قيامنا بها، في ذيل الأمن المركزي، جاء المخبرون، نعرفهم جيدا فبيننا وبينهم عِشرة سنوات، لا ينكرها إلا جاحد!
\”المكان كله محاصر\”، كما يقال في الأفلام العربي، نحن الآن شبه مستعدون للقبض علينا، الكردونات أعدت، والكماشة قادمة، حتما سيجروننا عاجلا وليس آجلا إلى العربات التي عينوها لحملنا إلى حيث لا يعلم إلا الله، وضباط الداخلية.
انتشر خبر الاعتصام على مواقع التواصل الاجتماعي، بدأ بعض الأصدقاء في القدوم إلينا، وكلما أتى فرد جديد، تقريبا يبعث معه عشرة من أفراد الأمن، آخر مرحلة، نلمح الآن استعدادات رجال الأمن لفض اعتصامنا الصغير، الذي شغل وسائل الإعلام المصرية، والعربية، وربما العالمية.. بدأ الخوف يزداد، ازدادت الوجوه وجوما على وجومها، تقطبت الجباة، ربما جهز البعض رسالة محتواها \”أنا اتقبض عليا\” ليرسلها إلى محاميه عند إتمام القبض.. الهجوم سيحدث في أي لحظة.. هم مستعدون، ونحن نحاول ذلك، وسط كل هذا الفزع، أتت ماهينور.
مبتسمة، مطمئنة، بهية، رشيقة الخطي، تحمل ورقة تنادي بالحرية لرفاقها في قضية \”وقفة خالد سعيد\”، تابعت دخولها من أوله، ابتسمت على ابتسامتها، وكذلك الكافة، انتشرت الطاقة في أرجاء الاعتصام، ومن ورائها جاء الكثير من الثوار، واستمر الاعتصام إلى الليل، مليئا بالهتاف والغناء، مليئا بالبهجة، مليئا بماهينور.. خبيرة استبدال الخوف بالبهجة، والظلم بالعدل.