ناهد صلاح تكتب: قلبي اللي مهما يشوف منكم.. عايش بيكم

تخونوه وعمره ما خانكم ولا اشتكى منكم

تبيعوه وعمره ما باعكم ولا انشغل عنكم

قلبي .. ليه تخونوه

يتدحرج صوت عبدالحليم حافظ ويخمش قلبي، كما تتدحرج بنا سيارة المخرجة أنعام محمد علي وتخمش الأرض وتشقها في طريق عودتنا من الأسكندرية إلى القاهرة، ينتشر صوت البيانو في البداية ليملأ فراغات القلب قبل أن يسكنها صوت حليم المتقاطع مع موسيقى بليغ حمدي التي تعلو وتهبط فتظهر مساحات الوجع وامتداده في غناء العندليب، فيتهاوى حائط الوهم وندرك أن الكلمات التي كتبها إسماعيل الحبروك هي فقط أغنية نتشارك أنا وأنعام لنكون كورس يرد وراء عبدالحليم الذي يملأ الفضاء بصوته الذي تسلل من راديو السيارة وقطع حديث الذكريات الساخن حيث كانت أنعام بدأت تسترسل في حكايات النوستالجيا والحنين إلى القديم وراحت تتذكر يوم مات جمال عبدالناصر وكيف انكسرت القلوب وخرج الجميع إلى الشارع حتى أن الكثيرين لم يمنحهم الخبر المفاجيء فرصة تغيير ملابسهم المنزلية وخرجوا إلى الشارع بطريقة أقرب إلى الحجل كأنهم يجمعون روحهم المشردة أو يتلمسون من السماء وعداً بالنجاة بعد موت الأب وفقدان البوصلة، بينما كنت أنا أستمع إليها وتسحبني الحكايات الواحدة تلو الأخرى دون الوقوف على ضفاف وأجدني أشكو لها وأنا في غاية الدهشة كيف أن هناك ناس أولاد ناس طيبين من الفلاحين والبروليتاريا العاملة يرون أن أكبر خطيئة صنعها عبدالناصر وثورة يوليو هي مجانية التعليم!!

قلبي اللى مهما يشوف منكم عايش بينكم

ويبعدوه الناس عنكم برضه شاريكم

تتفرع بي كل الطرق ولا أتنصل من موجات الرومانسية التي أراها الهداية ويراها آخرون الضياع، وأقول: لي ما أريد، وأغنيات حليم وإن تكبر عليها البعض ورآها \”ساذجة\”  أو \”ميلودرامية\” أو \”غير مناسبة لزمننا\” أو أية توصيفات أخرى لا تعنيني ولا تثنيني أنا \”الدقة القديمة\” عن أن أطلب ما يشبهني، وهذه الأغاني هي موطئاً للروح كما أنها تلون الحياة وتنعش القلوب، بالضبط كما قالت دراسات حديثة عن الأغاني العاطفية غير أنها جميلة فإنها تنفع أيضاً في إنعاش القلب العليل، فإيقاعها يجعل القلب يدق بمعدل 103 ضربات في الدقيقة الواحدة، المعدل الأمثل لإنعاش القلب والرئتين.

لما الحب لعب بالقلب.. لعبت روحي بعز الحب

قلت يا قلبي كمان.. وانسى زمان وليالي زمان

وهنا أتذكر الحادثة الشهيرة التي جمعت بين عبدالحليم والنجمة صوفيا لورين في إحتفال أقامته سفارتنا المصرية في لندن، وحين شاهدت صوفيا الهرولة تجاه حليم سألت: من هو؟ أجابوها: أشهر مطرب في مصر. فتوجهت نحوه وسألته عن نوعية ما يغنيه، فغنى عبدالحليم أغنية الحلوة، وبعدها لم تتمالك صوفيا لورين من الضحك وقالت له: هذه نوعية أغاني المراهقين في بلادنا، فأجابها العندليب: هذه أغاني الحب في بلادنا التي تحترم المشاعر وتقدرها وتمنح الحب حقه، فاعتذرت صوفيا على الفور.

لو كنت يوم أنساك أيه أيه افتكر تاني؟

الحب اللي في قلبي والدمع اللي في عيني

والنار اللي في جنبي والشوق اللي كاويني

في بعدك ولا مرة فتوني لو أنساك ازاي ينسوني

لكن أحمد الله أن منحني نزعتي الرومانسية دون مرض يُعلقني على الغمام، فأفتح من حين لآخر باب المراجعة الهادئة حتى لا يزيد الشيء عن حده وينقلب إلى ضده: هل يأخذ عبدالحليم زمنه وزمن غيره؟ وهل يمكن أن تصلح أغانيه الوطنية للتعبير عن مشاكل الوطن في \”الألفية الثالثة\”؟ وهل يقتنع الشباب بكلمات من تلك التي غناها عبدالحليم في الخمسينيات أو الستينيات من \”صافيني مرة\” حتى\”الشعر الغجري المجنون\”؟ وهل رومانسية حليم هي نفسها رومانسية فاروق جويدة وليوناردو دي كابريو في \”تيتانيك\”؟!

أسئلة تحترم نزوعي الرومانسي وقبله نجومية حليم التي أساء إليها بعضهم إعلامياً وتجارياً بشكل يذكرنا بما قاله نقاد الأدب عن شكسبير الذي تحول من مجرد مبدع كبير إلى صناعة شكسبيرية كاملة، فهؤلاء أساءوا إلى حليم بتصويره وكأنه ديكتاتور الغناء الوحيد في الماضي والحاضر والمستقبل، فهو الذي أسقط عبدالعزيز محمود ومحمد قنديل وكارم محمود وغيرهم وحارب هاني شاكر ووقف حجر عثرة أمام تقلد مطربي الأجيال الجديدة بعده عرش الغناء، وهذا كلام خاطيء وسخيف لأن عبدالحليم كان ثمرة ذهبية لعصر اجتمعت فيه عبقرية عبدالناصر السياسية ورومانسية الزمن ورغبات التمرد علي القديم والتحرر من الآخر الغربي المستعمر، بالإضافة إلى بزوغ نخبة ابداعية في مختلف ألوان الفن والأدب من نزار قباني لإحسان عبدالقدوس وكمال الطويل ومرسي جميل عزيز ومحمد الموجي وعشرات ممن رفعوا راية الحب والثورة وبناء مجتمع جديد بقوة وصفها هيكل في عبارته الشهيرة \”ليس هناك أقوي من فكرة آن آوانها\”.

أما محاولة المقارنة بين عبدالحليم الذي خرج من ساحة الحياة إلى تاريخ الغناء وعالم الأسطورة وبين أجيال كثيرة جاءت بعده تبقى مقارنة ظالمة أشبه بمقارنة الأهرامات بمترو الأنفاق، الأولى تنتمي إلى التاريخ وتشير إلى حضارة ظاهرة في عصرها بصرف النظر عن قيمتها من العصر الحالي، والآخر في قلب الحياة مهما كانت اخطاؤه فإن ميزته الأساسية في الحضور اليومي والحي الذي يمس حركة ومصالح الناس.

صورة صورة صورة كلنا كده عايزين صورة

صورة صورة صورة تحت الراية المنصورة

صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصور

يازمان صورنا صورنا يازمان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top