عزة كامل تكتب: الريح تحمل الموت وتمضي

هناك على شاطئ الموت والريح تنشر نداءها الهامس المخيف، كان طفل الخطيئة العربية منكفئا على وجهه، وجسده الضعيف تداعبه أمواج بحر الشمال، سيكتب التاريخ: \”هنا مات  إيلان الصغير قبل أن ينشد أغنية في حب الوطن\”، وقبل أن يعلموه ميراث أجداده من أناشيد الخزي العربي وسط صهيل النفاق السياسي.

\”إيلا\” يا صغيري، هل ارتعبت قبل أن يبتلعك موج البحر، هل استنجدت بالقمر الدمشقي وشعراء القصر، هل تشبثت بأمك وأخيك اللذين كانا يصارعان الموت مثلك، ولم يتثن لهما أن يسترجعا تفاصيل حياتهما الدمشقية، والزمن الهارب من ذاكرة الإنكسارات، هل حملتك ملائكة الموت وقلبك الراعف مازال – هناك- ينبض. هل ظهرت حورية البحر وأنت تشهق شهقتك الأخيرة التي شقت حجاب السماء.. هل هدهدك \”حنظلة\” توأم روحك ووجعك، هل وضع في يديك حجرا لتلقي به على الصمت العربي، هل رفرف عليك سرب من النوارس أم سرب من الغربان، هل صرخت تطلب العدالة أم أخرسك صوت الجوارح؟

أما أنتم أيها النازحون إلى الغيب، الهائمون الباحثون عن كسرة خبز ومأوى، ماذا فعلت بكم شاحنة الموت عندما ألقت بكم في عرض الطريق في بلاد لا تتكلم العربية، ولا ينشدون شعر \”المتنبي\”, هل كنتم تعلمون أن الخيانة قاسية وأنكم ستتركون للريح والمجهول والمتاجرة بمآسيكم وخوفكم وهروبكم وستكونون مجرد أكوام من الأجساد العفنة التي لن تنهض من نومها أو حلمها، ولن يتسنى لها أن تذوق أوجاع المنفى أو تصرخ من طاغوت الغربة.

الصراخ يصعد من أحشائنا، والكلاب المنتفشة الوبر تعوي تجاه السماء.. هذا السراب يتبادلنا، نسير في بريقه، رغم الموت الذي يطوقنا، ودولاب الوهم الذي يدور في رؤوسنا، في هذا البحر اللجي، تدور أمواج الهزيمة الكبرى بما تحمله من جثث القسوة المفجعة، تقدم للساحل أضحية وقرابين الطغيان في عتمة ليل, لا ينيرها موت رخيص عبر الدروب الموحشة البعيدة والصرير الساخر لأرواح البحر الشريرة.

ومن خلف الظلام والرعد، نلهث، ونثرثر، وتنهض كثير من الآلام المؤودة من غفوتها الآن ويداهمنا الذعر الكبير وتتموج بداخلنا غصات مريرة ويمضي كل منا خاسرا.

بأي قبح ماكر يلفظهم البحر والأوطان وبأي سخاء مفرط تتكور في الصدور الجرائم، وتتأجج الشهوة للقتل وتصدأ القلوب وتتجرع كئوس الدم.. ماذا فعلنا؟! صمت بثقل الحجر على القلب، نقف على هاوية شفقتنا، نترنح على عمق آلام خيبتنا، أي روح خبيثه تجذبنا إلى الأسفل، وأي مسارات تغزل الوحدة والحنين المشتهي لوجوه غيبّها الحزن.

الكذب حيلة النفس البشرية اللئيمة، كل ما هو براق كاذب، والتوق للحرية والبحث عن مساحة للعيش أصبح حلما برّاقا.. إذا فهو كاذب، والكذب درب طويل مفزع يمتد إلى الأبدية، يقدم تنويعات من الموت الأسود وعلينا أن نختار الموت غرقا أو خنقا أو ذبحا أو سجنا، لا ملجأ ولا ظهير.

أجنة الشوك تنمو وتتعاظم، لا شمس نرى ولا سماء، ولا بشر، فقط أشجار عاطبة يرتع فيها الدود، موت ينسجه ريح الشرق.

أيها الهاربون من جحيم الطغيان إلى جحيم القدر الخفي، أي أسي تكابدون, أي ذل تتجرعون، عراة في مهب العواصف وزمجرة الأمواج، يحيط بكم وبنا هذا الأثير العطن الذي يخنق شهيقنا وزفيرنا في غصة الموت.

هؤلاء الموتي سيشّيدون قبورا للأحياء, فموتهم فرقان بين الحق وبين الباطل، حجاب على عتمة الروح.

أوليست الأشياء تكشف عن بعضها عندما تنساب قطرات الخوف داخل جوفنا ويظهر قبح الخطأ الذي توهمنا؟!

أكان كسبا وافرا أيها الطاغي وأنت تمشي سادرا في ليل الظلام تتلذذ بالصرخات الثقيلة  التي تدوي ليلا ونهارا، وبعين يغشاها التبلد والعمى تغازل الأرواح المليئة بالشر تقهقه مبررا لكل هذه الفظاعة والقتامة، تفوح رائحة النتن من روحك، تجادل بالباطل وتصافح طغاة أخرين لا يرون إلا جبروتهم, وما جبروتهم إلا ناموسهم، ناموس الطغيان، القابع في سراديب أحشائهم العامرة بالأشباح.

وما  يكون الليل مسكونا به لا يكشف سواه.

متي يمكن أن نجلو عنا قاذوراتنا وعارنا المجلجل وخطيئتنا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top