أن تتعامل مع سيارتك \”اليووزد\” بمبدأ حمارتك العرجة تغنيك عن زنقة الميكروباص، هذا المنطق يضمن لك بعضا من البهجة، وإن علت أصوات الكركرة فوق صوت نغبشة السماعات، وإن عانيت مرارا من ضبط المراية اليمين أثناء القيادة.
أيام الثورة، أقلتني في تلك الليلة الباردة مخترقتا ساعات الحظر منتعشتا وكأنها الفيراري، \”وكان عمك مخيط الطريق, علشان ماكنش فيه حد غيرى بصراحة \”
(فعادة يكون المرء والطريق فاضي شوماخر, أما في ساعات الذروة فزي ما حضرتك عارف \”الناس كلها بيتشوماخر لبعض\”).
حينما اقتربت من الكمين، أخرجت كارنيه نقابة الأطباء وتصريح اختراق الحظر بشكل روتيني، حيث تكرر الأمر كثيرا، كما تكرر غلق الكوبري الذي يلي \”الكمين زون\” أي سبب، لكن تلك المرة انتابنى شعور غامض برغبة شديدة في صعود الكوبري المغلق \”عافية\”, دلفت واثقا نحو عسكري تأمين الكوبري و\”رعشت العالي\” حتى أطل برأسه المتخوذة الخضراء نحو شباك السيارة وقال: (سيادتك ظابط يا باشا؟)
لا أعلم لماذا كان صوتي متحشرجا حينما أجبت: (لأ.. دكتور) ربما لأننى أدركت خطيئتي، خفت أن يتقمص دور رياض باشا المنفلوطي مع الدكتور في \”اللمبي 2\”، وامتلأت رعبا حينما رأيت في عينيه نظرة \”فرج\” فيلم \”الكرنك\”، لكنه فاجأنى حينما رسم على وجهه ابتسامة الإزبهلال وقال: (اتفضل يا باشا), صاح رفيق ليلته من خلفي: بتعمل إييييييه؟ فرد معاتبا صاحبه: ده دكتووووور, دكتور وإحنا عيانين يا عم.
هذا المجند الطيب، جعلني أتذكر أحمد سبع الليل \”فيلم البرئ\”.
هذه الأيام، أدركت أن (بطل فيلم البرئ) لم يعد مجندا بالجيش فقط، الكثير منا أصبح هذا الرجل، يظن أننا يجب ألا تأخذنا الرحمة في حربنا ضد أعداء الوطن.
إلا أن الفتى الأمي الساذج أحمد سبع الليل، \”طلع أجدع من ناس كتير\”، فبعد أن امتلأت رأسه بتلك الأكاذيب وصارت حقيقة راسخة في عقله، وأصبح مبرمجا على سحل وقتل كل من يشيرون عليه، لأنه عدو لوطنه، عرف الحقيقة ببساطة فطرته السليمة النقية، \”حسين ابن عم وهدان لا يمكن يكون من أعداء الوطن\”، هكذا قال بمنتهى البراءة، حينما رأى صاحبه مقبوضا عليه.
لم يستطيع سبع الليل أن يمحو ذكرياته مع صاحبه وجاره، ولم يقدر أن يصدق ما كانوا يذيعون فى مخه ليل نهار، صدق سنين عمره التي عاش فيها الصاحب والأخ والجار، وإن اختلفت الثقافة والتربية والرأي.
اعرف جاري الأستاذ رجب جيدا، رجل طيب فعلا، لكنه دائما يقول على جاره الذي كان يحفظ أبناءه القرآن \”إرهابي\” عدوا للوطن، كما أنه لم يهتم حينما علم أن ابنة زميلته فى العمل مفقودة منذ أن خرجت فى المظاهرات من أشهر مضت، أما زوجته، ففي كل مرة تشاهد فيها التليفزيون تسأله بمنتهى الحماس نفس السؤال: \”لماذا لا يحرقون كل هؤلاء الملاعين بعيالهم مثلما فعل هتلر ليطهر ألمانيا من اليهود؟\”، ثم تقسم ثلاثا إنها لن تعود وتشتري \”جبنة قريش\” مرة أخرى من هذه المرأة المنتقبة رغم جودة وحلاوة طعم الجبنة، فنحن الآن لابد أن نضحي من أجل حربنا ضد أعداء الوطن.
أستاذ رجب وزوجته وطنيتهم صادقه وحسهم مرهف، كثيرا ما يبكون بصدق وبحرارة حينما يشاهدون جنازات شهداء الضباط والعساكر التي باتت تتكرر كثيرا.
على الجانب الآخر أتذكر (الدكتور علي) هذا الشاب \”الكيوت\” ذو الوجه البشوش، الذي يحبه كل من يعرفونه، منذ فض رابعة وأصبحت عينه كئيبة، ولم تعد ترى سوى الجانب المظلم من الدنيا.. الدكتور علي مثل كل مصري يعتبر استهداف الضباط والعساكر ارهاب، لكن ثمة أشياء بداخله تجعله غير مهتم، فهؤلاء ليسوا أفضل من أخيه الصغير طالب الصيدلة الذي توفي برصاصات أصحابهم، ولا أمهاتهم أحسن حالا من أمه التي فقدت صغيرها وتموت حزنا كل يوم أمام صوره التي تملأ البيت.
ولأن التفاصيل مازالت حاضرة في الوجدان، هو يعتبر أغلب من حوله \”أعوان للظلمة\”.. صديقه المقرب.. زميله الطبيب.. ممرضات القسم، حتى أم محمد العاملة الذى اعتاد أن يشرب قهوتها كل صباح، أصبحت من أعوان الظلمة، أعداء الدين والوطن.
صحيح أن الواقع مرير والعودة إلى نقطة الصفر في الوقت الحالي تبدو أمرا مستحيلا، خصوصا لو كان صاحبك الذي يتبنى الرأي الآخر \”عيل رخم وماكنش بينزلك من زور أصلا\”، لكن على الأقل إن أردت أن تستقيم الإنسانية بداخلك، حاول أن تقف مع نفسك ثانية واحدة، وفرق بين من يطبق على الميكروفون والمستمعين، امنح لأخيك الأعذار، لا تيأس من الذي أحنى ظهره ليركبوه كالحمار، بدل نبرات الكره التي تذاع ليل نهار بذكريات الجيرة والعشرة والصحبة، نفض عنك أوزار هؤلاء الساسة الإنتهازيون، ودع وساخاتهم التي اعتلت العقول والغل الذي ملأ الصدور في السنين الماضية. فقط حاول مع من حولك أن تعيش مثل \”البرئ\”.. وطلع سبع الليل إللي جواك.