\”التصديق\” كمفهوم مكبل وأحيانا قاتل لخيال الكثير من الناس, لا يفوق سذاجته سوى مقدار الشفقة التي تشعر بها تجاه من يتبناه ويختبئ وراءه.
لتضع نفسك في الموقف الآتي.. اجلس مع حماتك أو والدتك أو زوجتك مثلا, \”هاحكيلوكوا بقى على مسلسل تركي جديد هاااايل, لازم نتفرج عليه مع بعض.. أنا هحكيلكوا الحكاية كلها، بس صدقوني هتحبوا تتفرجو عليه\” وبعد التغاضي عن نظرات الشك في السلوك أو الاتزان العقلي التي سترميك بها هذه وتلك.. تبدأ في سرد الخط الأساسي للحكاية عسى أن تثير اعجابهن.. \”بصي يا تانت.. التمثيلية دي بقي عن إيه, عن ولد صغير يتيم.. بياخده راجل طيب من والدته عشان يربيه ويعلمه وسط الناس اللي مسئولين عن حراسة مملكة قديمة من بتوع زمان.. الولد بيكبر وبيقع في غرام أميرة جميلة من أميرات المملكة.. المشكلة إن التقاليد كانت تمنعهم من أنهم يحبوا بعض وطبعا من إنهم يتجوزوا, فبيتجوزوا في السر.. وبعدين الأميرة بتتعب وبيجيلها مرض وهي حامل في توأم من الشاب اليتيم.. وبعدين بيجي واحد سياسي خبيث كده بيقنعه أنه علشان ينقذ حياتها مفيش حل إلا أنه يخون زمايله.. ولما بيعمل كده بيدمر البلد اللي كان المفروض يحرسها وفي وسط الصراع ده بتموت الأميرة وهي بتولد والشاب بيتشوه جامد جدا في معركة مع أستاذه.. والأستاذ بياخد الولد والبنت التوأم بعد ما يتولدوا وبيودي الولد يتربى في بلد بعيدة جدا مع ناس طيبين وبيوصيهم إنهم مايقولولش أي حاجة عن أصله أو عن أبوه الخاين، والبنت بتتربي في حتة تانية برضه بعيد عنه.. وبعد سنين الولد الصغير بيكبر وبينضم لمجموعة من الثوار (أو بلاش ثوار عشان الناس بقى يجيلها هرش من الكلمة دي).. لمجموعة من المتمردين على حكم الطاغية اللي ماسك البلد وهو ميعرفش أن قائد قوات الطاغية ده وأهم راجل في نظامه يبقى في الواقع أبوه هو شخصيا.. وبعدين أخته بتنضم ليهم وبرضه مابيعرفوش إنهم إخوات إلا متأخر.\”
حلو كده؟ لا مش حلو, إلى هذه اللحظة سيكون رد الفعل في الغالب هو التشوق والإعجاب بهذه الدراما العائلية المليئة بالبهارات الجذابة.. حاول بعد ذلك أن تقنعهم بأن يشاهدوا فعليا تلك القصة على الشاشة، لكن بعد أن تفضي إليهم بسر صغير وهامشي.. أن القصة ليست لمسلسل تركي ولا هندي ولا حتي من انتاج العدل جروب.. هي في الواقع لسلسلة أفلام تحت عنوان Star Wars انتجت ما بين أواخر السبعينيات وأوائل الألفية الثانية.. وتدور فيها القصة و الأحداث التي قمت بحكايتها وأثارت اعجابهن بشدة وسط عالم من الكواكب المتصارعة والمخلوقات الفضائية وسيوف الضوء والروبوتات الناطقة والطاقة الغامضة التي يستخدمها الأشرار والأخيار في حروبهم ويسمونها \”القوة\”.. هنا وعلى الأرجح أيضا ستقوم حماتك بالاعتذار في أدب بأي حجة لتهرب بعيدا عن هذا الهراء وستمصمص والدتك شفتيها في حسرة على الولد الذي أصابه الزواج بتلك الشابة \”القادرة\” بخلل عقلي بعد أن استهلكت طاقته النفسية والمادية وستقوم الشابة \”القادرة\” شخصيا باطلاق تنهيدة راحة الاطمئنان على سلوكك وإخلاصك، بعد أن أصابها القلق كون حديثك عن مسلسل تركي لا يفسره إلا الشعور بالذنب لديك بسبب أي فعل \”شمال\” قد تكون ارتكبته، وفي كل الحالات سنقوم بتغيير القناة إلى قناة \”فتافيت\” أو ما شابه.. السؤال هنا, لماذا؟
يلعب مفهوم \”التصديق\” لدى الكثير من الناس في تعاطيهم مع الدراما والسينما دورا يحمل الكثير من الخلل.. وتصطدم دائما بالجملة الشهيرة التي لا تثير إلا الضحكات الممزوجة بالحسرة: \”أنا ماصدقش الكلام ده\”، فالأصل في العمل الدرامي أنه يضع قواعده الخاصة أيا كانت، ويقوم بتصوير القصة والأحداث بتفاصيلها وصراعاتها وحبكتها في أي جنس أدبي ممكن، وسواء كان حركة, أو خيال علمي, أو دراما تاريخية أو رعب أو فانتازيا أو قصة واقعية أو كوميديا، وحتى مزيجا من هذا وذاك أو من ذاك وتلك.. المقياس الأساسي للحكم على جودة العمل هنا إلى جانب المقاييس النقدية والجمالية المعتادة هو مدى اتساق المنطق الداخلي وخلو الحبكة من الثغرات والفجوات.. إذن – مثلا – لو شاهدنا تنينا عملاقا ما ينفث النيران، قد واجه البطل في المشهد وتمكن البطل من القضاء عليه بالقاء طوبة صغيرة على رأسه.. ليست المشكلة في أنه – مفيش حاجة اسمها تنين- الفيلم – يا عالم هتشلوني- قصة فانتازية.. تقبل وجود التنانين والعماليق والمخلوقات الفضائية والأشجار الناطقة, المشكلة الحقيقية أنه من المستحيل أن يتمكن البطل من قتل هذا الكائن الضخم المصفح بطوبة صغيرة.. هذا هو التشوه الحاصل في المنطق الداخلي والذي يضعف السيناريو والعمل ككل, بل وإنه حتى في هذه الحالة.. لو أن الفيلم مثلا ينتمي لنوعية الكوميديا الهزلية التي تدمج عناصر فانتازية (مثل أفلام Monty Python مثلا).. سيصبح من المقبول أن تصرع طوبة صغيرة ذلك الوحش القوي.. طالما أن جو العمل كان عبثيا منذ البداية ويهيء المشاهد لتقبل هذه الحلول.
لا أدري لماذا أو متى أصبنا بذلك الداء من سذاجة \”أنا ماصدقش\” الذي نضعه حاجزا وقيدا على استمتاعنا بما ينتجه خيال الفنان والمبدع.. الغريب أن جداتنا ونحن أطفال طالما أسعدونا بحكايات القصص الشعبي المتوارثة والمفعمة بالجنيات والغيلان والأقزام والأميرات والساحرات، وجاذبية تلك القصص لم تكن فقط تنبع من حكاياتها بأسلوب الجدات الدرامي الرائع، ذلك الذي يتقمص الشخوص ويتفاعل صوتيا مع الأحداث، بل وأيضا من مدى إخلاصهن في الحكي وكأنها أحداث حقيقية حدثت منذ زمن على أرض الواقع.. لماذا إذن اصيب الجيل التالي وما بعده بموات الخيال المريع الذي نشهده الآن.. هل كانت حقا بهذا الثقل كف الواقع في السبعينيات والثمانينيات بانفتاحه ووهابيته وسلفيته ورأسماليته وبتروله، أم أنه الجفاف الفكري والثقافي الذي حاق بمجتمعاتنا بعد أن تكلست أنظمة حكمها النتنة وجثمت تماما فوق صدور شعوبها بالغباء والفساد والإفقار.. لا أدري, لا تبقى بعد هذا سوى تحية واجبة لكل المهاويس والـ Nerds من حولنا.. أنتم فقط من تبقون تلك الجذوة مشتعلة في انتظار الأفضل.